ماذا يحصل فعلاً داخل كل من المعسكرين اللذين رسما المشهد السياسي اللبناني طيلة عشرة أعوام؟ كيف تفسر تلك التوترات والتجاذبات والتناقضات والمكبوتات الطافية على سطح العلاقات، داخل قوى 14 آذار، كما داخل تحالف عون مع 8 آذار؟ ليست المسألة خاضعة لتبسيط من نوع الاتهامات السهلة المتداولة على بعض الجدران. بل قد تكون لها في الجذور والأعماق أسباب أكثر مدعاة للبحث والتدقيق، لما فيه خير المعنيين ومصلحة عامة.
فاللافت بداية، أن هذين المعسكرين كانا قد خاضا تحديات صعبة جداً. واجتاز كل منهما حقول ألغام في المخاطر السياسية وحتى في الأخطار الجسدية، وظل كل منهما متراصّاً متضامن الصفوف. فمن جهة 14 آذار مثلاً، ليس بسيطاً ولا تفصيلاً أن يكون سياسيوها قد عبروا معاً جهنم الاغتيالات وخرجوا منها موحّدين. أياً كانت التحليلات حول مرتكبيها وبعيداً عن الغوص في الاتهامات أو في نظريات المؤامرة المقابلة، يظل ثابتاً أن ائتلافاً عريضاً مشكلاً من أحزاب وعائلات ـــــ أحزاب وأشخاص، عاش على مدى أعوام في هاجس من سيسقط منا اليوم. ومع ذلك، ظل سعد الحريري يعلن أن لا شيء سيفرّقه عن سمير جعجع إلا الموت...
وفي المقابل، ليست جنة مرصوفة بالحبور ما عرفه تحالف عون مع قوى 8 آذار. فهو التحالف الذي تعمّد فعلياً بدماء حرب تموز. يوم كانت الوحشية الصهيونية تحصد البشر تحت ركام آخر حجر. وتبشّر المقاومين بغوانتانامو جديدة. فيما كانت طائرة اسرائيلية تحوم فوق مخدع ميشال عون، ونبيه بري مهدّد من أكثر من مؤامرة داعشية حتى قبل ولادة "داعش". والتحالف نفسه عاد فواجه خطر التصفية السياسية والجسدية نفسها، في خوضه معركة المحكمة الدولية. يوم خرج سليمان فرنجيه وقال في سعد الحريري ما ينبش له اليوم من الأرشيف، غمزاً من دون طائل... وفي تلك المعارك كلها، ظل ذاك التحالف صامداً. بين بري وحزب الله علاقة رحم مقاوم واحد. وبين الرابية وبنشعي أبوّة وبنوة مع كل ما لتلك الجدلية من جدل.
ظل التحالفان صامدين. كأنما الأخطار الخارجية شكّلت عامل تصليب لجسميهما. تماماً كما قاعدة الفيزياء. حتى جاء زمن آخر. يمكن تحديد بدايته في لحظة انقشاعٍ ما لأفق الحرب في سوريا. في تلك اللحظة، بدا كأن قراءتين متناقضتين سادتا لدى مختلف أفرقاء التحالفين. واحدة تقول بأن الأسد سقط. إما الآن وإما بعد أوان. وثانية تؤمن أنه انتصر. وأن نصره شراكة مع من وقف معه. لكن الأكيد أنه في القراءتين، تولّد انطباع لدى الجميع مفاده أنه جاء وقت القطاف. مرحلة الحصاد وتقاضي الأتعاب والأثمان. زال الخطر من الخارج. وحل محله الدفع صوب الاستثمار من الداخل. لم تعد الأزمة عامل توحيد للداخل في مواجهة الخارج. بل صارت "الفرصة" دافعاً لتظهير ميول ونوازع من الداخل صوب الخارج. فبدأت تتباين الحسابات.
والطريف في الأمر أن لحظة الاختلاف في التموضعات على خلفية الحدث السوري الراهن، تزامنت وترافقت مع اختلاف في الخلفيات حول قراءة الزمن السوري السابق. وذلك لدى كل من الفريقين. ففي التباين مثلاً بين الحريري وجعجع أولاً، ثمة عوامل كثيرة وتراكمات واعتبارات. بعضها قيل وبعضها ظل مكتوماً، وإن كان معروفاً. لكن على خط التناقض هذا، كأن ثمة خلافاً آخر في اللاوعي عند الطرفين. خلاف حول من يستحق أن يربح من تبدل الوضع في سوريا؟ الحريري في وعيه أو لاوعيه، يستبطن أنه هو من دفع ثمن الحرب السورية طيلة خمسة أعوام. وهو من نفي طوعاً، وهو من غامر وقامر وحاول وراهن. وهو من استهدف سراً وعلناً، من عقاب صقر إلى وسام الحسن ... فيما جعجع، في "اللامفكر" عنده، يؤمن أنه هو من قاد الفريق نفسه إلى حيث وصل. وهو من دفع ثمن الاعتقال "الظالم جداً جداً"، وثمن التغييب والتهميش والإقصاء والعزل والسحل، فيما كان آخرون ينعمون بسلطة السوري ...
وفي التباين بين عون وبعض مكوّنات 8 آذار ثانياً، كأن "اللامفكر" نفسه يسود. بعض الشخصيات في هذا الفريق ــــ من دون حزب الله طبعاً ــــ كأنه يهجس في لاوعيه: هل يحق لميشال عون أن يقطف ثمار خط كنا فيه قبله بعقدين؟ وهل مشروع لهذا الرجل أن ينتقل من مقاومته "سوريا المحتلة"، إلى ربط رئاسته باستعادة الأسد لمدينة حلب؟! بينما حول عون من يردّ على تساؤلات هؤلاء المكبوتة، في فكرهم "اللامقال" نفسه: ومن منكم كسب مسيحياً واحداً لهذا الخط قبل ميشال عون؟! أو أي قيمة مضافة حققتموها لهذا الخط، من شدرا حتى رميش، قبل التفاهم معه؟!
طبعاً لا يعترف أي "مفكر" من لاعبي تلك المعادلة الأربعة بتلك الإشكاليات. وقد يردون عليها بكيل من مكبوتات مكنوناتهم. كيل يفضلون الاستعاضة عنه بمعادلة أكثر تبسيطاً. مفادها أنه تحت طبقات التناقض الظاهرة، من طبقة 8 و14 آذار، وطبقة الممانعة والمسايرة، وطبقة إيران والسعودية، وتحت كل طبقة تناقضية شكلية أخرى، ثمة أساس أول للانقسام، هو الفرز بين مكوّنات نظام ما قبل 2005، ومستجدّات نظام ما بعد هذا التاريخ. هو فرز في الذهنيات والثقافات والبيوتات والتنظيمات، قبل أن يصير فرزاً في المصالح الشاملة، من حكومة ونيابة وإدارة، حتى مغانم النفايات وأخوات النفايات... ليست المسألة بسيطة. بل معقدة جداً. ومآلها مزيد من التعقيد.