قال حسين مروة في حواره المشوّق مع عباس بيضون إنّه ولد شيخاً ويموت طفلاً. مات أبو نزار طفلاً وهو يتلقى الرصاص في بيته. أما تلميذه محمد دكروب، فلم يبرح الطفولة مطلقاً، فعاش طفلاً ومات كما يموت الأطفال. لا أدري لماذا أتى هذا السمكري من صور الى مجلة «الطريق» مصاباً بلوثة الكلمات. اكتشفه أنطون تابت عندما قرأ قصته القصيرة عن الفتى الذي يشعر بالبرد والجوع، فيسمع من خلال باب أحد البيوت صوت بيضة تقلى على النار، فيتدفأ بالصوت، ويشبع من أصدائه التي تغلغلت في روحه.

أتى به مؤسس «الطريق» الى المجلة، كي يكون دكروب أول مولود على يد هذه القابلة الأدبية التي أغنت الثقافة اللبنانية والعربية بروافدها التي لا تنضب. إنه الابن البكر الذي صار رئيساً للتحرير من دون أن يفقد شعوره بالبنوة. كان رئيس نفسه ومرؤوسها في آن. كان الكاتب والقارئ والمصحح والعامل. يشتغل كحرفي لا يرتاح، جاعلاً من أمه طفلته، ومن أبوّته لها شعوراً بأنه لا يزال ابنها الوحيد.
ارتبطت «الطريق» بأسماء كبيرة، أنطون تابت ورئيف خوري وحسين مروة وكريم مروة، لكن الاسم الذي التصق بها حتى نهايته ونهايتها كان محمد دكروب. الرجل الذي تخلى عن كتابة القصة القصيرة تحوّل الى روائي النقد ورفيق الروائيين والكتّاب وأمين سرّ الأدب اللبناني.
في زمن بنيوية مهدي عامل الماركسية، عاش الدكروب في مكان آخر، رأى في النقد باباً الى الحكاية، وفي الحكاية مساراً نقدياً. هكذا قام بقراءة الأدباء من خلال أدبهم. أي أنّه كتب عكس كل النقاد، فهو لم يقرأ النص من خلال حياة الكاتب، بل قرأ الكاتب من خلال حياة النص، فصارت دراساته _ حكاياته مرجعاً للمتعة والمعرفة في آن معاً.
هذا النوع من القراءة الأدبية الذي تفرّد به الدكروب لا تستطيعه سوى عيون الحب، فالرجل الآتي من الطبقات الفقيرة والمسحوقة، تعلّم من تجربته الشخصية والإنسانية معنى الحب الذي يرى في الوجه الواحد تعدده، والذي يكتشف الكاتب من خلال اكتشاف النص، جاعلاً من الروائي بطلاً في حكاياته التي أعاد الدكروب كتابتها.
وكما يفعل جميع الأطفال، فإنّ محمد دكروب لم يتخلّ عن أمه أبداً، كما أنّه لم يتخلّ عن جذوره الطبقية وانتمائه للشيوعية، رغم كل ما جرى في العالم وفي لبنان.
أمس، حين أغمض محمد دكروب عينيه لم يغمضهما على الموت مثلما نظن، بل أغمضهما على الحكاية. اليوم، يصير كاتب الحكايات حكاية لا تبحث عن كاتبها، ويتحول مكتشف المعاني الى معنى يرافق الأحياء ويتحاور مع الموتى.
كانت حكاية هذا الطفل الذي ولد في الطريق الى «الطريق» ممتعة وغنية وحزينة أيضاً، وهي ككل الحكايات الجميلة لا تنتهي حين تنتهي.
* روائي وناقد لبناني