كان تقرير القنصل البريطاني في جدّة، ريدر بولارد، عن أعراض العَته وحالة الفصام التي أصابت ملك «الهاشميين» الأول، حسين بن علي، بمنزلة ستارة نهائية أسدلت على دور شيخ عربي، قُدّر له منذ مئة عام بالتمام والكمال، أن يكون أداة فعّالة في تنفيذ مشروع غربي هدف إلى قلب موازين القوى التي حكمت المشرق العربي زهاء أربعة قرون، وإلى تغيير الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. لم يكن ذلك الشيخ الذي حمل لقب «شريف مكة»، يعي جيّداً طبيعة دوره الوظيفي، فهو كان يحسب نفسه حليفاً حقيقياً للإمبراطورية البريطانية، لكنّ الغربيين لم يكونوا يرونه إلّا أداة تستعمل حين يكون لها جدوى، ويُرمى بها جانباً حين لا يعود لها فائدة. عموماً، قصة هذا الشيخ الذي ظنّ أنه يطلق «الثورة العربية الكبرى» جديرة بأن تروى في زمننا هذا، الذي برز فيه شيوخ آخرون يحسبون أنهم حلفاء حقيقيون للغرب، ويظنون أنهم يطلقون، هم الآخرون، «ثورات عربية كبرى».

مع الخصيان في بلاط آل عثمان
وافق الإنكليز على طلب «الشريف» راتباً شهرياً ضخماً بمقاييس ذلك الزمن

من المفارقات أنّ الشريف حسين بن علي «الهاشمي»، الذي سار في ركاب الجيوش البريطانية الغازية للمشرق العربي وهو يرفع «راية العروبة» كنقيض لراية آل عثمان، لم يكن يتكلم اللغة العربية إلا بلكنة أعجمية (تشبه اليومَ لكنة َحفيده في الأردن)؛ مردّ ذلك أنّ الرجل وُلِد ونشأ وشبّ وشاب في غير بلاد العرب. أما الأعجبُ من المفارقة الأولى، فهي أنّ آل عثمان الذين دوماً قبّل الشريف الهاشمي أيديهم، قبْلَ أن يعضّها في نهاية المطاف، هم من أحسنوا للرجل ولأسرته، وهم الذين رفعوا شأنه بعدما كان مجرّد لاجئ خامل الذكر يعيش على ما تهبه له السلطات التركية من عطايا، ويقطن داراً صغيرة على ضفاف البوسفور منحها له السلطان العثماني.
كانت أسَر «الهاشميين» في الأستانة تتكون من مجموعة من الفروع التي تتنافس فيما بينها، وتتآمر ضدّ بعضها. وكان السبب الرئيسي في صراعات «الهاشميين» هو التكالب على منصب سياسي ــ ديني جرى العُرف الإسلامي، منذ زهاء 800 عام أن يُسند إلى واحد من أفراد ذرية النبي. وكان السلطان العثماني هو الذي يختار بنفسه من «الهاشميين» من يراه جديراً بأن يكون «شريف مكة»، فيرسله والياً عثمانياً على بلاد الحجاز يلهج بحمد الخليفة التركي، ويشرف على «خدمة الحرمين الشريفين»، ويرعى مواسم الحج، ويبعث غلتها من الذهب إلى الباب العالي كل عام.
فكان من الطبيعي أن يسعى «الشريف» حسين بن علي، هو الآخر، إلى تجريب حظه، لعله يفوز بالمنصب البرّاق الذي يعهد به السلطان إلى أحد المحظوظين من أفراد أسرته الكبيرة. لكنّ السعي في بلاط العثمانيين لم يكن أمراً ميسوراً، فدون الوصول إلى إيوان السلطان والوقوف في حضرته، عقبات ورغبات وطلبات متنوعة، قد يفرضها أحد الحجاب هنا، أو يغمز بها أحد الخصيان هنالك... وما هو أوسخ من تنفيذ المطالب المختلفة للحاشية المحيطة بخليفة المسلمين، المكائد التي ينسجها «الهاشميون» المتنافسون لبعضهم بعضاً.
تذكر بعض المصادر البريطانية التاريخية أنه في غضون النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تم خلع «شريفين لمكة» من منصبيهما، ثمّ اغتيل «شريف» ثالث، وأدى الفوز الذي أحرزه فرع آخر من فروع العائلة الهاشمية، إلى نفي أسرة حسين بن علي عام 1893. وفي 1905 كان حسين قاب قوسين أو أدنى من الفوز بمنصب «شريف مكة»، لكنّ ابن عم له قدّم رشوة قوامها سبعون ألف ليرة عثمانية، وطقماً من الصحون المذهبة إلى أحد النافذين في البلاط العثماني، فضمن بذلك لنفسه ولاية الحجاز. (2)
لكنّ الحظ لم يعاند «الشريف» حسين بن علي طويلاً، فابتسم له في نهاية المطاف، حينما تعطّف عليه السلطان عبد الحميد، فعيّنه في 1 تشرين الثاني 1908، والياً على مكة المكرمة. ولم يتباطأ حسين في الوصول إلى مركز ولايته الموعودة، فركب البحر فوراً، ورست به سفينته في ميناء جدّة، يوم 3 كانون الأول 1908.

«الشريف» ينفع لدور مخلب قط

اهتمامات «الشريف» لم تقتصر على التجارة وكسب المال فقط. فلقد حدثت تطورات سياسية دراماتيكية في الأستانة، نتج منها عزل السلطان عبد الحميد من منصبه في 27 نيسان 1909، أي بعد بضعة أشهر من وصول «الشريف» حسين إلى جدّة. فحلّ محله أخوه محمد رشاد الخامس، وكان هذا سلطاناً ضعيفاً لا يملك من السلطة إلا اسمها. وبذلك صار الحكم فعلياً في إسطنبول، في يد حزب «تركيا الفتاة» ويعضده قادة الجيش. وسريعاً ما أدرك «الشريف» حسين أنه صار في ولايته الحجازية البعيدة عن مركز العاصمة العثمانية، بلا حسيب ولا رقيب، فأخذ يمارس سلطاته وتجارته باستقلال شبه تام.
من مقرّه في مكة، أخذت أخبار انحلال وتفكك الدولة العثمانية تتواتر إلى مسامعه، تتناقلها ركبان الحجاج الوافدين إلى المدينة المقدسة من أصقاع العالم الإسلامي. فبعدما انسلخت الأقاليم المسيحية: اليونان وصربيا وبلغاريا تباعاً عن سلطة العثمانيين، بدأت الأقاليم الإسلامية نفسها تخرج من بين أيديهم الواحدة تلو الأخرى: فالبوسنة والهرسك ابتلعها النمساويون تماماً عام 1908، وليبيا احتلها الإيطاليون عام 1911، وألبانيا تناوشها الصرب واليونانيون عام 1912. وقبل ذلك بأعوام احتلت فرنسا تونس، وقبلها الجزائر. وصارت مصر من نصيب البريطانيين.
لم يبق إذن للعثمانيين من مستعمراتهم سوى الشام والعراق والحجاز. وحتى الجنود الأتراك المكلفون الإشراف من حامياتهم على استتباب الأوضاع في المناطق العربية، سرعان ما سحب العثمانيون قسماً كبيراً منهم، ليردوا بهم هجمات اليونانيين على جزر بحر إيجه، وجزيرة كريت، أو ليقضوا بهم على ثورات الأرمن. وبذلك بقيت الولايات العربية شبه فارغة من الجند التركي، وتغري كل طامع فيها أن يبادر، ويمد يده.
من ثمّ اندلعت الحرب العالمية الأولى في 28 تموز 1914، وبعد ثلاثة أشهر دخل العثمانيون في تلك الحرب منضمين إلى محور ألمانيا ومن معها، ضدّ روسيا وبريطانيا ومن معهما. وبدا أنّ الأتراك عبر تلك المقامرة الخطيرة التي أقدموا عليها، يسعون إلى نيل مكانة في حلف دولي يأملون نصره، ما قد ينتشلهم من كبوتهم التاريخية، وإلّا فإنّ خسارتهم ستكون آخر مسمار يدق في نعش دولتهم.
من جانب البريطانيين، فإنهم شرعوا يرسمون خططاً ينالون بها من عدوهم التركي الهش، وتحديداً من خاصرته العربية الضعيفة. وكانت المشكلة التي اعترضتهم هي قلة عدد قواتهم العاملة في الشرق الأوسط. وذلك أن معظم جنودهم، وكذلك الجنود الذين ساقوهم من المستعمرات البريطانية المختلفة، منشغلون بالقتال في جبهات أوروبا المديدة، فما عاد لهم مدد كافٍ من المقاتلين يرسلونه لغزو المشرق العربي. واستقر رأي البريطانيين على أنه يلزمهم حليف من العرب أنفسهم يتولى طعن الأتراك وقصم ظهرهم.
رست خيارات المخططين الإنكليز على استخدام «شريف مكة» حسين بن علي، ليلعب دور «مخلب القط» في «لعبة الأمم الكبرى». فـ«الشريف» يمكن أن يكون زعيماً مقبولاً عند عرب كثيرين، بما له من الوجاهة العائلية والدينية والسياسية، ولِما يحظى به من علاقات مع رجال القبائل البدو، وبما له من ارتباطات اقتصادية مع كثيرين من تجار الحواضر الشامية. فأخذ مبعوثون بريطانيون يتوافدون على جدة ليُزيّنوا له محاسن التحالف مع الإنكليز.
أدرك الرجل بحسه الانتهازي، أنّ هذه فرصة تاريخية سانحة للارتقاء درجات أعلى في سلم المجد. فبعث ابنه فيصل إلى دمشق، ليجس فيها مواقف القوميين العرب في الشام، فوجدهم على قلب رجل واحد متعطشين للاستقلال ببلادهم عن الترك، وساخطين على واليهم جمال باشا «السفاح». وأسفرت تلك الاجتماعات عن اتفاق سمّي «ميثاق دمشق». وفيه اعتمد المجتمعون العرب خريطة لدولتهم الموعودة ــ كما يتصوّرونها ــ التي تمتد حدودها من مرسين وأضنة شمالاً إلى عَدن جنوباً، ومن البصرة شرقاً إلى سيناء غرباً. وكانت الصفقة التي رأوا أن يعرضوها على بريطانيا تتمثل في التالي: عليها أن تعترف بحدود دولتهم، وباستقلالها التام، وهم يقبلون أن يعقدوا تحالفاً حربياً معها، وأن يمنحوها الأفضلية في الشؤون الاقتصادية، في دولتهم القادمة.
أمر البريطانيون ابن سعود أن يتوقف عن غزو الحجاز لإنقاذ حسين بن علي بينما تآخر الإنكليز مع «الشريف» ضدّ العثمانيين، تآمروا عليه مع الفرنسيين

«الشريف» يطلب الدبس من النمس

بالفعل، بادر «الشريف» حسين ببعث موفد إلى السير آرثر هنري مكماهون، وهو المندوب السامي البريطاني في مصر، يحمل مذكّرة بالمطالب العربية، ضُمّنت في رسالة مؤرّخة في 14 تموز 1915. وزاد «الشريف» إلى مطالب القوميين العرب مطلباً آخر خاصاً به، فلقد ترجّى بريطانيا العظمى أن توافق على أن يكون خليفة المسلمين عربياً في مقبل الأيام. وردّ مكماهون على رسالة «الشريف» بأخرى قبل فيها أن يكون خليفة المسلمين عربياً، وتحفظ على الاعتراف بالحدود التي قررها مؤتمر دمشق لدولة العرب. ثمّ تواترت المراسلات بعد ذلك بين حسين ومكماهون حتى بلغت عشر رسائل.
أسفرت المفاوضات بين الجانبين في نهاية المطاف، يوم 10 آذار 1916، عن اعتراف إنكليزي بحق العرب في دولة افتراضية، مقابل أن يدخلوا هم إلى الجبهة جنوداً في حروب بريطانيا الفعلية. ولم ينس «الشريف»، وهو يفاوض مكماهون نفسه طبعاً؛ أن يطلب من بريطانيا أن تدفع له مرتباً شهرياً يستعين به على قضاء شؤونه وحوائجه. قبل الإنكليز أن يدفعوا لحسين راتباً شهرياً ضخماً بمقاييس ذلك الزمن، قوامه خمسة وعشرون ألف جنيه إسترليني. واشترط حسين أيضاً أن يكون مُلك الدولة العربية المقبلة له ولذريته خالصاً. ووعده الإنكليز خيراً... ثمّ اشترط أن يمدوه بالحنطة مع السلاح والذخيرة والمستشارين، وقبلوا ذلك.
أخيراً أعلن «الشريف» حسين بن علي من سطح قصره في مكة «الثورة العربية الكبرى» في صبيحة 2 حزيران 1916، وذلك عبر طلقة افتتاحية من بندقيته. وأجابتها رصاصاتُ بنادق كثيرة في الهواء أطلقتها جماعات من البدو أغراهم الذهب والجنيهات البريطانية والحنطة أكثر مما أغرتهم دعاوى الاستقلال والحرية والعروبة. على أنّ أولئك المرتزقة لم يكونوا ندّاً للجيش التركي النظامي الذي سرعان ما استجمع شتاته، واستخدم سكة الحديد الحجازية بفعالية لنقل المدد والتعزيزات من دمشق إلى المدينة المنورة. فبدا كما أنّ خطة «الثورة العربية» تنهار.
في أكتوبر 1916 وصل إلى جدة، في الباخرة «لاما»، ضابط إنكليزي برتبة كابتن، كان اسمه توماس إدوارد لورنس. ولقد جاء الرجل مبعوثاً من قادته ليقيّم حقيقة الأحوال العسكرية على الجبهة العربية. وجال لورنس في الحجاز، واستعرض القوات «الشريفية»، فأعجب بقائدها فيصل ثالث أبناء «الشريف». ولاحظ لورنس في تقريره إلى قيادته أن البدو ليسوا بحاجة إلى جنود بريطانيين قد يُسبب وصولهم إلى البقاع الإسلامية المقدسة الحساسيات. لكنّ تحقيق النصر يكمن في زيادة تنشيط هِمّة البدو، وهذه مسألة يستطيع الذهب أن يتكفل بها. كما يمكن استثمار جرأة العرب بعدما يزوَّدون بالمدافع والذخيرة المناسبة، ويُلقنون بعض المهارات من بعض المدربين العسكريين. ثمّ خلص لورنس إلى أنّ نسف سكة الحديد الشامية الحجازية هي مفتاح الانتصار. وانتهى إلى أنه يستطيع أن يفعل تلك المهمات كلها بنفسه.
هكذا انبثقت في الحجاز حرب عصابات ناجحة. ثم صار الاستحواذ على الجيوب التركية الفاقدة كل أنواع الإمدادات، مسألة هيّنة. ففي صيف 1917، سقطت بلدة العقبة الواقعة على رأس البحر الأحمر، ثمّ تداعت مدن شامية أخرى كأحجار الديمينو: معان، فعمّان، فدرعا، وأخيراً دمشق التي دخلها فيصل بن حسين يوم 4 تشرين الأول 1918، ثم لحق به إليها، بعد بضعة أيام، الجنرال ادموند ألنبي، وهو القائد العام لقوات الحلفاء في الشرق، مستولياً على مقاليد القرار في سوريا. وفي نهاية هذا الشهر، أعلن العثمانيون انسحابهم من كل المنطقة العربية، ووقعوا هدنة مودروس، التي كانت في الواقع استسلاماً.
في تلك الأيام، بدأ «الشريف» يحلم أحلاماً وردية بإمبراطورية عربية يكون هو فيها خليفة وسلطاناً وخاقاناً للبرّيْن وللبحرين؛ لكن فجأة على حين غرّة، نبتت مجموعة من الخوازيق في أحلام «الشريف». ولقد تبيّن لاحقاً أنّ كل وعود مكماهون عن اعتراف بريطانيا بالدولة العربية المستقلة، كانت زائفة وكاذبة ومخادعة، وأنّ طبخة أخرى كان الغربيون يهيّئونها للمشرق العربي. ففي الشهر نفسه (شباط 1916) الذي كان فيه الإنكليز يتآمرون مع «الشريف» ضدّ العثمانيين، كانوا في مكان آخر يتآمرون مع الفرنسيين ضده. والأسوأ أنّ الإنكليز لم يكتفوا بعقد صفقة مع الفرنسيين لتقسيم المشرق، بل إنّ وزير خارجيتهم آرثر بلفور، عقد صفقة أخرى مع اليهود. وهكذا فإنه لمّا أفاق «الشريف» من النوم، أحسّ بوجع الخازوق، وعرف مقدار غباء من يطلب الدبس من النمس.

خريف «الشريف»

بما أنّ المصائب لا تأتي فرادى، كان هناك خازوق جديد يعدّه ابن سعود، هذه المرّة، للشريف حسين. وقد كانت بين إمارة نجد ومملكة الحجاز مشاكل حدودية قديمة، من أبرزها خلاف حول واحتي تربة. وبدا للملك حسين أن يحسم قضية تربة بالقوة العسكرية. فبعث إليها ابنه عبد الله في جيش يتكون من ألفي جندي نظامي، وخمسة آلاف بدوي، وعشرة مدافع ميدانية وعشرين مدفعاً رشاشاً. ومن جهته بعث عبد العزيز إلى تربة سلطان بن بجاد زعيم جيش «الإخوان»، يقود ألف وهابي مسلح. ولمّا كانت موازين القوى تميل بشدة لمصلحة «الهاشميين»، فقد تمركز عبد الله بجيشه في تربة، وهو لا يظن أنّ أحداً لا يزال يجرؤ على الاقتراب من الواحات التي أخذها. وحينما كان معسكر عبد الله يغط في النوم، في فجر يوم 25 أيار 1919، هاجمه مقاتلو «الإخوان» على حين غرّة، وأعملوا السيوف في رقاب من يعتبرونهم «كفاراً»، فسال الدم في ذلك الصباح، تحت أشجار النخيل، ودياناً. وأبيد جيش «الهاشميين» بصورة شبه تامة. وانتهت المعركة قبل شروق الشمس، وهرب الأمير عبد الله (ملك الأردن في ما بعد)، مع زمرة صغيرة من ضباطه، من المذبحة، وهم يرتدون ملابسهم الداخلية.
كانت هزيمة تربة ضربة قاصمة لجيش الملك حسين، فهناك فقد معظم رجال جيشه ومعداته. وبرغم أنّ بريطانيا أمرت ابن سعود أن يتوقف عن غزو الحجاز، بل أن ينسحب من تربة نفسها، وانصاع لأمرها صاغراً، فإنّ مصيبة «الشريف» في جيشه كانت لا تعوّض. بلغ الغيظ والحقد والقهر بالرجل مبلغاً جعل بعض الدبلوماسيين البريطانيين يكتبون في تقاريرهم لرؤسائهم أنّ حسين يكاد يجنّ.
سجّل نائب القنصل البريطاني في جدّة لورانس جرافيني شميث، حادثة جرت أمامه، على سطح الثكنة العسكرية بجدّة، في ليلة صيف عام 1920، تبيّن مقدار السّادية التي وصل إليها «الشريف». فقد كان الناس في ذلك الزمن يقضون السهرة على الأسطح طلباً لنسائم الهواء. وأحبّ «الشريف» أن يرفه عن ضيفه الإنكليزي ويضحكه، فأمر عبداً له أن يجيء بشيء. وبعد دقائق عاد العبد يجرّ قرداً ضخماً مربوطاً بسلسلة. وقام «الشريف» في الحال محرّضاً القرد على أحد ضيوفه الذين اشتهروا بالجبن. فزع الضحية فزعاً شديداً من القرد، وراح يركض حول السطح وهو يصرخ متعثراً بالناس والمقاعد، وكان على وشك أن يلقي بنفسه من حافة السطح الذي كان على ارتفاع عدة طوابق عن الأرض، خوفاً من الحيوان الهائج. فكتب جرافتي سميث يقول: «كنت أراقب الملك طوال هذا المشهد المؤلم، ورأيت كيف لمعت عيناه، ورأيت اللعاب يسيل من زوايا فمه». (3)
في قصة أخرى، روى القنصل رونالد ستورز كيف أنه كان يتكلم مع «الشريف» حسين ذات يوم بالهاتف، وكان الخط رديئاً. وفجأة سمع ستورز «الشريف» يخاطب سنترال التلفون بلغة لم تكن متوقعة من رجل في مثل مقامه الديني، آمراً العاملين بقطع جميع التلفونات في الحجاز باستثناء خطه لمدة نصف ساعة. وقد فعلوا ذلك في الحال. وبلغت عصبية «الشريف» مبلغاً جعلته يلقي بكل من يغضبونه في قبو يقع تحت قصره في مكة. حيث كان ينزل ومعه هراوة، متى طاب له ذلك، لينفس عن غضبه بضرب البائسين الذين كان يحتفظ بهم في الظلام هناك.
ويوم أعلن «الشريف»، في 5 آذار 1924، أنه عيّن نفسه خليفة للمسلمين، لم يأخذه أحد على مأخذ الجدّ، واستهزأ به كثيرون؛ على كل حال، فإنّ نهاية «الشريف» كانت قد أوشكت في ذلك العام، فقد انفض عنه كل من حوله، بما في ذلك ابناه اللذان اصطنعت بريطانيا لهما تاجين في بغداد وعمّان. كره الحجازيون حسين حدّ القرف. ونفضت بريطانيا يدها من الشيخ العجوز لكثرة عناده ومطالباته. وحينما هجم جيش ابن سعود على مدينة الطائف في الحجاز، يوم 4 أيلول 1924، وارتكب فيها مذبحة رهيبة طاولت المئات من أبنائها العزل من السلاح، ولم يدافع الملك حسين عن شعبه حتى برصاصة واحدة؛ فقد الملك شرعيته تماماً. وتحت ضغط أعيان الحجاز وكُبرائها المطالبين باستقالة حسين من منصبه، رضخ الرجل للأمر الواقع أخيراً.
في الساعة التاسعة من مساء 3 تشرين الأول 1924، وقّع «الشريف» على وثيقة التنازل عن العرش لابنه علي. وبما أنه لم يعد يرغب أن يبقى في الحجاز، بعد كل الذي جرى له، فقد اتصل بابنيه ملكي العراق والأردن، ليسمحا له باللجوء في بلديهما. وكان عجيباً أن الاثنين رفضا استقبال والدهما، فلم يعد للشريف حينئذ من خيار إلاّ المنفى. ولقد وجد له الإنكليز ملجأ في جزيرة قبرص، فقبل بذلك. وقضى «الشريف» أيامه الأخيرة في جدّة، بتعبئة ممتلكاته الخاصة التي تبيّنت طبيعتها عندما ركب أخيراً السفينة يوم 16 تشرين الأول 1924. فقد شوهد العبيد وهم يترنحون من ثقل الصفائح المحكمة الإغلاق التي حملوها إلى الباخرة «تو ميْر سيز». وكانت تحتوي على ثمانمئة ألف جنيه ذهبي، هي حصيلة أرباح ستة عشر عاماً من تجارة الحج، وما احتفظ به «الشريف» لنفسه من المساعدات البريطانية أثناء «الثورة العربية».

هوامش:
(1) روبرت ليسي، «المملكة»، ترجمة دهام العطاونة، ص 101.
(2) المصدر السابق، ص 43.
(2) المصدر السابق، ص 100.




تاجر الحجّ والعبيد والسحالي

يبدو أنّ «الشريف» حسين لم يرَ في بلاد الحجاز التي وصل إليها ما يسرّه، فالطبيعة كانت جرداء موحشة لا أثر للنبات فيها، والناس فقراء بسطاء، والدور طينية بدائية، والذباب في النهار يملأ كل الأمكنة، والبعوض في الليل لا يرحم من يريد أن ينام، والرطوبة قابضة على الأنفس، والغبار يدهن الوجوه والأشياء، ومياه البحر التي يشربها الناس في جدّة بعد تحليتها رديئة الطعم، وليس هنالك نظام للصرف الصحي في البلد، ولا أثر للمستشفيات سوى دكاكين المتطبّبين، ولا مدارس نظامية سوى كتاتيب القرآن، ومظاهر الثقافة معدومة تماماً... اللهم إلا إذا اعتبرنا الثقافة شطحات الصوفيين في حلقهم المنتشرة، والإدارة المحلية الحجازية بائسة ومقتصرة على مكاتب هنا وهناك، تعنى بتحصيل الضرائب المختلفة من الحجاج أو من الأهالي.
وفضلاً عن فقر الحجاز وبؤسه وجهامته، فلم يكن البلد يملك من الموارد الاقتصادية سوى مورد موسمي يتعلق بتجارة الحج. وأمّا الزراعة، فكانت محاصيلها شحيحة لقلة المطر، ولم يكن صيد السمك يسدّ رمق الصيادين أنفسهم. أمّا المناجم والمعادن فمفقودة تماماً. وحتى الحج نفسه، فإنّ رواده الموسميين لم يكونوا منتظمين. فكثيراً ما كانت تطحن بقاعاً كثيرة من العالم الإسلامي حروب أو مجاعات أو أوبئة، فيتقلص عدد الحجاج الوافدين. ولم تكن المواصلات إلى مكة ميسورة، بل كان الزوار يأتونها في قوافل على الجمال، أو في سفن صغيرة متداعية، وكانت الرحلات تمتد بالناس أشهراً كاملة لا تخلو من الضيق والأسقام والقلق، وغارات قطاع الطرق.
لكنّ حجاج بيت الله وجدوا، في تلك المدة التي تولى فيها «الشريف» حسين بن علي مقاليد مكة، سبباً جديداً آخر أضيف إلى أسباب شقائهم. فلقد كان «الشريف» رجلاً آلى على نفسه ألا يتبقى في جيوب ضيوف الرحمن قرشٌ إلّا وانتزعه منهم. فمنذ أن يفد الحجاج إلى جدة، يعترضهم موظفو «الشريف» ليستخلصوا منهم معاليم الحج والعمرة. وبعد أولئك المستقبلين يتولى أمرَ الحجاج قابضون آخرون، فللشريف رجال اعتمدهم مطوّفين، ويُشترط على كل حاج أن يسجل اسمه عندهم ليعلّموه مناسك الحج، ويجب على ضيف الرحمن أن يدفع لهم أتعابهم رضي بذلك أم لم يرضَ. أما رحلة الحجاج من جدة إلى مكة، فتحتكرها حصرياً حمير «الشريف» وبغاله وجماله. ويمنع على كل دابة أخرى أن تدخل إلى مكة أو المدينة، إلّا إذا كانت تنتمي إلى دواب «الشريف». ثمّ إنّ حُسين منع منعاً باتاً على السيارات أن تلج البقاع المقدسة، بل لقد حمل ذات مرة قضيباً حديدياً ضخماً، وبنفسه حطم سيارة وجدها راسية في أحد أسواق مكة، في بداية العشرينيات. كما كان على الحجاج أيضاً أن ينزلوا في خانات معينة امتلكها «الشريف»، وأن يشتروا أضاحي يسوقها لهم «صبيان الشريف». أمّا إذا شاء الحاج أن يزور قبر النبي في المدينة، فعليه أن يدفع رسوماً أخرى باهظة.
لم يقتصر جشع «الشريف» على هذا الحدّ، فلقد كان يعنّ له أن يزيد قيمة الضرائب التي يفرضها على الحجاج، في كل موسم. حتى إنه زاد الرسوم التي يفرضها على الرحلة من جدة إلى مكة المكرمة خلال ست سنوات، ضِعفاً. ولم يسلم الحجازيون أنفسهم من شَرَه «الشريف»، فهو كان يفرض عليهم، سلسلة لا تنتهي من الضرائب المتنوعة: ضريبة دخل، وضريبة مقايضة، وضريبة طوابع، وضريبة ماء، وحتى ضريبة دفن للموتى...
وصل الطمع بـ«الشريف» حدّاً جعله يبيع السحالي المجففة في الأسواق. فلقد بلغه يوماً أنّ أهل مكة وكثيرين من زوارها يعتقدون أنّ أكل السحالي يقوي القدرة الجنسية للرجال، وأنّ تجارة السحالي رائجة في المدينة رواجاً كبيراً. فما كان من «الشريف» إلاّ أن أمر بمنع أولئك التجار من بيع تلك الزواحف للناس. ثمّ بعد أيام قليلة انبثقت في جميع أنحاء مكة لافتات ترشد الزبائن إلى أكشاك بعينها يمكنهم فيها أن يقتنوا السحالي المجففة الوحيدة المرخص بها.
ولم يكن الحجّ والحمير والبغال والجمال والسحالي وحدها التي تاجر «الشريف» بها، فلقد كانت في مكة تجارة أخرى قديمة ورائجة، قوامها العبيد. ومن نكد الدهر، أنّ كثيرين من الحجاج المسلمين الفقراء (الأفارقة خاصة) كانوا يضطرون إلى بيع أبنائهم وبناتهم في أسواق المدينة المقدسة لتأمين تكاليف رحلة العودة من الحج الطويلة والشاقة والباهظة. وكانت التجارة بأولئك العبيد والإماء مصدر ثروة وربح لتجار مكة ولأغنيائها ولـ«أشرافها»!