عندما يرحل فنان بحجم وديع الصافي عن عمر قارب الـ92، لا يمكن الكلام، ولو عاطفياً، عن خسارة للفن أو للغناء. هو خسارة أكيدة لعائلته، لكن القول إننا خسرنا ما كان بإمكان الراحل تقديمه بعد، هو محض استغلال لاسمه، كما حصل معه (ومع صباح، أطال الله في عمرها) في آخر حياته.
لا علم الموسيقى ولا المقارنة بأصوات أخرى تستطيع تحديد قيمة وأهمية وقوة صوت وديع الصافي. إنه فوق «الامتحان». الذائقة وحدها تحدِّد علاقة الناس بصوته. أن لا تحب صوت وديع ــ وهذا نادر جداً ــ فهو أن لا تستسيغ نبرته فقط. كذلك، أن لا تسمع أغانيه يعني أن لا تهوى اللون الغنائي الذي أعطاه الكثير، أي الفولكلور اللبناني في الدرجة الأولى. انتقاده، إن وُجِد، يقتصر على استثناءات من أعماله القديمة (غير الموفّقة، ومن يدّعي الكمال؟) والكثير ممّا غنّاه في السنوات الأخيرة، أي تلك الأغنيات التي لا تليق بتاريخه ولن يُذكر بفضلها في المستقبل (فهي لسوء الحظ ليست من النوع الذي يدوم) ولا في الحاضر (بما أنها لا تحاكي الموجة السائدة لحسن الحظ). قد يكون هو أساء إلى نفسه عندما قبل غناء (وتصوير) هذه الأعمال، ومن بينها ما قدّمه إلى المؤسسة العسكرية وقبلها تلك التي أقحمه فيها نجوم عصرهم من الجيل الجديد، لكن هذه الإساءة إن كانت تُغفَر له لطيبته ولشعوره بأبوة تجاه العاملين في الفن، فالمذكورون يتحمّلون المسؤولية عن سوء نية (استغلال مادي بحت) مبطّنة برغبة كاذبة في تكريمه.
رحل وديع الصافي. الرثاء الوحيد، الصادق والمختصر، هو التالي: رحم الله أحد أجمل الأصوات في تاريخ منطقتنا. ولا كلمة إضافية، سوى ما يمكن طرحه كفكرة لتكريمٍ لائق له بعد رحيله. وهنا أدقّ الكلام. تكريم هذا الرجل لا يكون إلا باستعادة مجتمعنا لتقدير قيمة الصوت البشري في الأغنية. الصوت عند وديع الصافي كان أهم شيء، ونكاد نقول كل شيء. فلا هو مدرسة في التأليف (الذي مارسه تلحيناً وأهمله توزيعاً جدّياً)، ولا هو أهم عازف عود في الوطن العربي، ولم يكن مطلوباً منه أساساً إلا الغناء. أن تملك صوتاً كهذا هو أن تتفرَّغ للغناء، وهكذا حسناً فعَلَ الراحل، علماً أنه أبدع بعض الألحان العذبة. ثمة مقولة جميلة عن الأصوات الجميلة والقوية: مثل الجرس. اليوم نودّع ثاني أصفى الأجراس، بعد نصري شمس الدين.