حين يصلك الخبر المحزن، فيقطع سهرة الجمعة بالآهات، تستفيق «الفراقيّات» التي يحفل بها التراث الغنائي اللبناني، وقد حملها المطرب الراحل بصوته الرخيم إلى مصاف الكلاسيكيّة. هل نحن بحاجة لأن نتذكّر كم أن وديع الصافي يسكن ذاكرتنا، بالبصمات النورانيّة التي تركها على الذوق العام واللاوعي الجماعي؟ كلّ منّا يردد أغنياته كأنّها من ملكياته الحميمة. «ولو؟ هيك بتطلعوا منّا؟». هذه المرّة صحّت الشائعة للأسف، ورحل مطرب المطربين في مطلع تسعينيّاته، بعد معاناة مضنية مع المرض. «آه يا زمان يا زمان يا زمان، لو تغلط مرّة وتعطيني الأمان».
وديع (فرنسيس) الصافي، ابن رقيب الدرك، الذي شهد ولادته الثانية مراهقاً في «إذاعة الشرق الأدنى» (الاذاعة الوطنيّة اللبنانيّة مطلع الأربعينيات) على يد ميشال خيّاط وسليم الحلو، بات منذ عقود من معالم الهويّة اللبنانيّة، لكن نزول ستارة الفصل الأخير على حياته الحافلة ليلة الأمس، يكرّس تلك الحقيقة، ويعطيها بعدها الرسمي والنهائي.
مات وديع الصافي ليأخذ مكانه نهائيّاً في سجل الخالدين. علماً أن هذا العملاق لم يحظَ بالاهتمام الرسمي في بلده إلا متأخّراً. أما الدعم والرعاية في اللحظات الصعبة فجاءاه من خارج لبنان. ولا غروَ في ذلك، فوديع ليس حكراً على لبنان. ومدرسته الغنائيّة «اللبنانيّة» ليست من الشوفينيّة أو الانعزاليّة في شيء. أبعد من اللون الجبلي الذي برع فيه، أو الغناء التقليدي اللبناني الذي يقترن به في التصنيفات السائدة، خلّد وديع الصافي التراث المشرقي العربي، وأحياه وجدّده. فالغناء الشعبي اللبناني، بشتّى أنماطه وقوالبه (من الميجانا وأبو الزلف، إلى المعنّى والعتابا، مروراً بالشروقي والقرّادي…)، له امتداداته وتفرّعاته في فلسطين وسوريا والأردن والعراق. ابن نيحا الشوف حمل الفولكلور إلى قلب الأغنية الحديثة، فأعطاها مذاقها الخاص، برخامة صوته، ورهافة شعره، وقوالبه الموسيقيّة الفريدة. تلك هي «مدرسة وديع الصافي»، في صلب الأغنية العربيّة المعاصرة التي بلغت معه واحدة من ذرواتها النادرة.
اليوم نلتفت وراءنا من على رصيف المشيّعين، ونستعيد محطّات على الطريق الطويل. وديع الصافي تاريخ حافل من الحقب والأسماء، أسعد السبعلي ومارون كرم، إيليا أبو ماضي وسعيد عقل، فيلمون وهبي والرحابنة وزكي ناصيف، فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب. «عظيمة يا مصر» وسوريا وفلسطين. الأرز وبيت الدين. «مهرجانات فرقة الأنوار» مطلع الستينيات، وقد صدر بعض أرشيفه على أسطوانة رقميّة في التسعينيات. «بعلبك» مع فيروز، و«موسم العزّ» مع صباح، وحواريّاته مع نجاح سلام في أفلام محمد سلمان… حين وضع له محمد عبد الوهاب لحن «عندك بحرية يا ريس»، علّق موسيقار الأجيال قائلاً: «ألحّن له إيه؟ أيّ حاجة يقولها حلوة!». مغنية الأوبرا المصريّة والناقدة الراحلة رتيبة الحفني، كتبت عن صاحب الحنجرة الذهبيّة: «لا نغالي إن قلنا بأن صوت وديع الصافي أقوى أصوات الرجال في العالم العربي بلا استثناء، مداه ديوانان ونصف ديوان تقريباً، أي 18 مقاماً أو نغمة. ويهبط صوته، بسهولة متناهية، من أقصى الحدة إلى أقصى الغلظ. هذا الصوت ضخم جذل، وفي الوقت نفسه رقيق رشيق…».
وديع تنحّى اليوم، فاسحاً الطريق أمام الورثة والفنانين الشباب. هؤلاء يجدون فيه أكثر من مطرب فريد، إنّه أحد رموز النهضة الموسيقيّة العربيّة.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@