التضارب. هي الكلمة المفتاح لمأساة العبّارة الإندونيسية. فإلى التضارب بالمعلومات لجهة مسارها، حيث قالت مصادر تلفزيون المنار إنها وصلت للاراضي الاوسترالية لكنها أجبرت على العودة ادراجها برغم حال المحيط والعبّارة، فيما قالت مصادر «ال بي سي» إنها غرقت قبل وصولها الى الاراضي الاوسترالية، هناك تضارب في عدد الضحايا والمفقودين ومكان وجودهم، اضافة الى التضارب بالصلاحيات والتكليفات بالمتابعة من قبل الدولة اللبنانية، واخيرا التضارب بالمسؤوليات وهنا بيت القصيد.
من المسؤول عن مأساة هؤلاء اللبنانيين؟
في المباشر هناك جهات ثلاث: الاولى هي اوستراليا نفسها، الدولة المستهدفة بالهجرة، التي حسب أحد الناجين، أرجعت المهاجرين غير الشرعيين بعد وصولهم الى اراضيها برغم حال المحيط وحال العبّارة، لا بل بالرغم من استغاثة الركاب الموشكين على الغرق، حيث إن الناجي المشار اليه قال في تقرير عرضته «ال بي سي» إنهم، استنجدوا بخفر السواحل الأوستراليين واعطوهم إحداثيات مكانهم عبر جهاز الجي اس ام، ووعدوا بأن ينتشلوا لكن احدا لم يصل حتى غرقت العبارّة .. وإذا ثبت ذلك، والأرجح انه ثابت، تكون الدولة الاوسترالية قد قتلت هؤلاء عن سابق تصور وتصميم، او بالإهمال. جرم كهذا، في فرنسا مثلا، يسمى «التقاعس عن نجدة شخص في حال الخطر»، وهو جرم استحدث منذ حوالى ٢٥سنة بعد ملاحظة فرنسا الميل المتزايد لدى مواطنيها لفردية مريضة، يبدو أنها تضرب المجتمعات «المتقدمة» في انسانيتها. فكون هؤلاء مهاجرين غير شرعيين لا ينزع عنهم انسانيتهم، ولا ينزع عن الدول واجب حمايتهم ولو لم يكونوا من رعاياها، لمجرد انها قادرة على نجدتهم وهذا حسب نصوص بالقانون الدولي واتفاقات توقعها تلك الدول.
في المسؤولية المباشرة ايضا، هناك إندونيسيا التي تتغاضى لسبب او لآخر عن «خط» الهجرة غير الشرعية عبر اراضيها، وفي المسؤولية الاكبر هناك المجرمون التجار.
حسنا الجميع مسؤول، لكن، في تعليقات المصابين واهاليهم هناك مسؤول آخر لا يظهر للوهلة الأولى.
يسأل احد اهالي الضحايا في مقابلة على «ال بي سي» بحرقة «وينهم نوابنا؟ بيظهروا وقت الانتخابات وبيعطونا مية دولار وما بيعودوا يبينوا. انا هلق مستعد اعطيه للنائب ٢٠٠ دولار بس يجبلي حقي»!
عالم كامل من المتناقضات في هاتين الجملتين. عالم من فوضى المفاهيم والقيم. والاهم؟ جهل تام بمعنى المواطنية بما تفترضه من حقوق، صحيح، لكن ايضا من واجبات. «وينيي الدولة» يسأل الرجل؟ ويعترف بعد ثوان بأنه .. باع صوته في الانتخابات لنائب، يعلم مسبقا انه لن يساعده بشيء. اي إنه باع مستقبله، استبدل واجبه باختيار شخص مناسب للخدمة العامة، بشخص راشٍ، ولا شك مرتشٍ، لقاء مئة دولار... فكيف يطالب الدولة، التي شاهد قتلها واغراقها في الفساد بان تكون الى جانبه؟
اللافت ان مفهوم الدولة يختلط في أذهان العامة بمفهوم الامومة والابوة. لا يا صديقي. الدولة ليست امك ولا اباك. ليست الدولة كائنا بيولوجياً يتميز بغريزة الامومة، أي إنها لا تحميك «خلقة» وتتغاضى عن سلوكك مهما كان، تتفهم ضعفك او فقرك وبرغم كل شيء تقوم بحمايتك.
لا يمكن للمواطن اللبناني الذي تخلى عن واجباته بحماية الدولة ولو بالتصويت الصحيح، ان يطالبها بان تكون مستقيمة. وكلما تعمق المشكل لجأ الى الحلول الفردية البديلة.
لا كهرباء؟ فليكن المولد. لا ماء؟ فلتكن السيترنات، لا مدرسة رسمية؟ فلتكن المدارس الخاصة. اما التظاهرات والإضرابات والعمل النقابي؟ فـ«حركات» لا علاقة لهم بها.
استبدل اللبناني دولته ومؤسساتها منذ زمن طويل ببنية «تحتية» خاصة. وما كثرة السيارات التي تتسبب بزحمة سير خرافية الا صورة من بين صور كثيرة لتفاقم الحلول الشخصية على حساب القيام بواجب النضال العام لنقل مشترك يمنعه المافيويون في الدولة ومحاسيبهم عن المواطنين. في لبنان، حل الخاص مكان العام في كافة مؤسساتنا، لا بل انه بالتقادم، أوجد فرص عمل قائمة على غياب تلك المؤسسات. وبذلك اصبح راسخاً رسوخ المشكلة. اصبح اي نضال من اجل العام يواجه من قبل المواطنين المرتبطين بتلك الفرص العمل الهشّة. اي إنه لم يعد من مصلحة المواطنين قيام الدولة اصلا. فكيف نسأل «وينيي الدولة»؟
أيها اللبنانيون: أوقفوا الندب بعبارة «وينيي الدولة»، فنحن قد «دفناها سوا».


يمكنكم متابعة ضحى شمس عبر تويتر | @dohchams