القدس المحتلة | شربُ كوب من القهوة في ميدان باب العمود، عادة مقدسية متوارثة منذ زمن. اعتاد المقدسيون شرب القهوة قبل ولوجهم إلى البلدة القديمة، أو عند خروجهم منها، وذلك لأخذ قسط من الراحة من عبء التجوال في السوق، أو للتمتع برؤية جمال الباب التاريخي. لكن ممارستهم هذه العادة لم تعد ممكنة منذ اندلاع هبّة القدس الأخيرة، بعدما صار العدو يرى في باب العمود أخطر المناطق الأمنية في القدس، أو فلسطين كلها، فضلاً عن رمزيتها. ليس أقل من عشر عمليات نفذها شبان مقدسيون ضد قوات الاحتلال والمستوطنين الذين يمرون من الباب، لكونه المدخل الرئيسي إلى البلدة، وفي الوقت نفسه، شهدت المنطقة عدداً من عمليات الإعدام.
الجلوس في باب العمود صار محظوراً وممنوعاً على أي عربي. ما إن يقترب الشبان المقدسيون متوجهين إلى البلدة القديمة أو مغادرين منها، حتى يستنفر جنود العدو المتمركزين في ثلاث نقاط داخل المنطقة التي لا تتعدى مساحتها دونمين. يشير أحد الجنود على الشاب بيده آمراً إياه بالتوقف، فيتبعه باقي الجنود مشهرين أسلحتهم صوبه واتجاه المارين، ثم يبدأ التفتيش المهين من أخمص القدم حتى الرأس.
عدّاد حياة كل من يخضع للتفتيش يكاد أن يتوقف في أي لحظة، فأي حركة لا تعجب الشرطي تعني الموت المحتوم. رصاصهم يسبق تفكيرهم في أحيان كثيرة، ويدل على ذلك كمية الرصاص التي يطلقونها على جسد أي شاب يشتبهون به حتى بعد ارتمائه أرضاً. مثلاً وصل عدد الرصاصات التي اخترقت جسد الشاب محمد خلف، المتهم بتنفيذ آخر عملية هنا، إلى خمسين.
يخيم الصمت على مكان التفتيش، كما يروي محمد أبو رموز الذي خضع للتفتيش مرتين، فبات لا يسمع سوى دقات قلبه التي تأخذ بالتسارع شيئاً فشيئاً حتى يطلق سراحه. وبرغم الضجيج المحيط بالمكان، فإن البقاء على قيد الحياة يغيب كل شيء في سبيل التركيز على عدم إبداء أي حركة.
باتت تحركات المستوطنين تتجنب العبور من هذه المنطقة

لا ينتهي التفتيش بتحسّس الجسد فقط. الجنود لا يقصرون في إمرار بعض الضربات والركلات في أثناء بحثهم عن أدوات حادة، أو أي شيء يمكن أن يبرر اعتقال الفلسطيني أو إزهاق روحه، كما جرى مع الفتى محمد الزغل (16 عاماً)، الذي اعتقله الجنود بعدما وجدوا في حقيبته المدرسية مسطرة مكسورة، خلال بداية أحداث الهبّة الشعبية في تشرين الأول الماضي.
يوحي مشهد باب العمود للموجود حوله أنه في فيلم سينمائي، أو أنه وصل إلى منطقة حدودية. من النافذة التي تعتلي الباب يتربص قناص ملثم بالمارين، وعلى مدخله مباشرة تقف قوة من الشرطة، ومثيلاتها تقف في أعلى الدرج الموصل إليه. أما بالنسبة إلى الأسلحة التي تحملها تلك القوات فلم يعتد رؤيتها المقدسيون من قبل، فقد اختفت من بين أيديهم أسلحة المطاط والغاز واستُبدلت بها الذخيرة الحية.
لا يقتصر الاستنفار الأمني للعدو على نشر قواته في المنطقة، فهو أخذ بتركيب كاميرات وأجهزة التقاط الإشارات اللاسلكية ورادارات على أعمدة الكهرباء المحيطة بالباب، إضافة إلى الكاميرات التي نصبها منذ سنوات لمراقبة حركة المواطنين في البلدة. ويظن العدو بنشره كل هذه التعزيزات الأمنية على باب العمود أنه قد يمنع وقوع عمليات ضده، ولكن متخصصين يرون أن وجود عناصر الاحتلال في المنطقة يشكل حافزاً لدى الفلسطينيين لتنفيذ عملياتهم، خاصة مع استفزاز الجنود المستمر لهم «بالطالعة والنازلة».
وجود الجنود في باب العمود، كما يرى مدير «مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية»، زياد الحموري، هو وجود شكلي، لا يتعدى دور «استعراض العضلات»، لإظهار صورة المسيطر أمام المستوطنين. ويدل على ذلك أن «ميدان باب العمود فقط وليس محيطه شهد ما يقارب عشر عمليات تفاوتت بين طعن وإطلاق نار أدت إلى مقتل عدد من الجنود وإصابة آخرين»، كما يقول.
يشار إلى أن الكنيست الإسرائيلي أقر بقراءتين ثانية وثالثة خلال الثاني عشر من شباط الماضي، قانون التفتيش الجسدي العاري، لأي شخص يثير «حفيظة» قوات الاحتلال، وذلك لإضفاء صبغة قانونية على الانتهاك الذي يعارض حقوق الإنسان، وهو ما أعطى فرصة للجنود بأخذ تفتيش الفلسطينيين كتسلية أو مضيعة للوقت، كما تبين شهادات مقدسيين كثيرين.
برغم كل تلك الإجراءات، فإن جنود الاحتلال دون حماية أنفسهم بحواجز حديدية تجعلهم بعيدي المنال عن أيدي الفلسطينيين، لم تشعر المستوطنين بالأمان الذي كان دائماً يتغنى به رئيس بلدية الاحتلال، نير بركات، في كل لقاءاته الدولية، التي كان يقول فيها إن القدس من أكثر الأماكن أماناً، بل صار ولوج المستوطنين إلى البلدة ومغادرتها من أبواب غير باب العمود، وحتى إذا ما اضطروا إلى العبور منه، فإنهم يركضون بسرعة خوفاً من الاستهداف.