القاهرة | أراد قائد القوات المسلحة ووزير الدفاع المصري، عبد الفتاح السيسي، تفويضاً شعبياً لمحاربة «العنف والإرهاب». العنف الذي حصل ويحصل منذ ٣٠ يونيو، لا ينحصر بتصرفات الإخوان، فكثيراً ما تعرضت مسيراتهم لاعتداءات البلطجة، وآخرها الاعتداء على مسيرة نسائية «لأخوات» مسلمات، راح ضحيتها ٤ قتلى. هذا إضافة إلى المجزرة التي وقعت أمام دار الحرس الجمهوري وسقط فيها نحو ٥٢ قتيلاً من الإخوان، إضافة إلى ضابط، بعد هجمات بدأها أنصار الجماعة.
غير أن العنف والفوضى الذي قصده السيسي، هو الذي صدر عن مناصري الإخوان منذ عزل الرئيس المحسوب عليهم. وفي هذا الإطار، تشكل حكاية «بطاطا»، نموذجاً لهذا العنف.
عمرها لا يتجاوز العشرين ربيعاً. لا تعرف من يومها إلا أعمال البيع والشراء لمساعدة عائلتها المحدودة الدخل والوافدة إلى القاهرة من أطراف الصعيد. غالبية الباعة الجوالين في ميدان الجيزة يلقبونها بـ«بطاطا». أما والدها، فاعتاد الجلوس معها من وقت إلى وقت على الرصيف لإضفاء نوع من الشرعية وفرض حجاب أبوي يقيها من نظرات المارين. تجيد «بطاطا» صناعة الحلوى من السكر البني، وتبيعها للطلبة والأمهات، اللواتي يجاهدن لاسترضاء أطفالهن، وتتخذ من قلب ميدان الجيزة مركزاً لها، تضع فيه ألواحها الخشبية المرتكزة على دوائر من الحجارة. وفي ليلة سوداء، تبدلت حال «بائعة الحلوى»، وتحولت إلى كابوس. نالت من والدها رصاصة طائشة جعلت منه مقعداً عاجزاً عن الحركة لما بقي له من عمر، حسبما أكد لها دكتور مستشفى القصر العيني الفرنسي، الذي شخص حالة والدها، بأنه تهشم كامل في الطحال واستقرار 3 طلقات فى منطقة الحوض.
تسترجع «بطاطا» أثناء التحقيقات ما شاهدته في الميدان، عندما قرر المعتصمون في ميدان النهضة الملاصق لجامعة القاهرة التحرك إلى الأمام بضعة أمتار للاحتكاك بالمواطنين. تقول للمحقق: «لم تستغرق سيطرة الإخوان المسلمين والجماعات المسلحة سوى بضعة دقائق لغلق منافذ الميدان ومخارجه ومداخله، وفوجئنا بانتشارهم في مجموعات فوق كوبري فيصل الذي يصبّ في النهاية عند شارع البحر الأعظم وعلى طول شارع مراد، حيث أهم السفارات العربية والأجنبية، والمقر القديم للسفارة الإسرائيلية. كذلك لاحظنا مجموعات من الشباب الملتحين قادمين من شارع محطة قطار الصعيد ومترو الأنفاق، حيث أُغلق شارع المحطة بالكامل حتى بداية شارع الهرم».
وتتابع «بطاطا»: «عند الساعة التاسعة تقريباً بدأت طلقات الرصاص والخرطوش الآلي تدوي في سماء الجيزة، تبعتها حالة من الهرج عمّت المكان بسبب الشرر الذي تطاير من عيون القادمين لقطع الطرق. ثم بدأوا في إلقاء زجاجات المولوتوف وإشعال النيران في «كاوتش» السيارات وتهشيم زجاج السيارات الموجودة بطول الشوارع الرئيسية والفرعية وتكسير أوجه المحال التجارية».
تقول إن «الفوضى عمّت المكان في لحظات، وبحث الكثير من السيدات والرجال عن مأوى يقيهم سيل الرصاص الغادر الذي أصاب وجوه الشباب وصدورهم وأجزاءً متفرقة من أجساد الشيوخ الكبار، ثم تصاعدت الأدخنة من بعض المحال وسمعنا صرخات الشباب، لكننا لم نوفق في تحديد هويتهم وإلى أي فصيل ينتمون».
في هذا الوقت تتوقف «بطاطا» عن السرد، فيمسك وكيل النيابة تقريراً مرسلاً إليه من هيئة الإسعاف المصرية ويطلع عليه ليكتشف أن حصيلة الاشتباكات التي اندلعت بميداني الجيزة والنهضة بلغت 6 وفيات و41 مصاباً نُقلوا جميعاً إلى مستشفى أم المصريين والقصر العيني.
يؤكد التقرير أن هناك 5 من القتلى يسكنون في مناطق قريبة من ميدان الجيزة. ويشير إلى أن سبب وفاة والإصابات المختلفة منحصرة في طلقات نارية في الرأس والصدر، وأن جميع المصابين تعرضوا لطلقات حية في الفخذ والقدم، ثم يعيد النظر إلى «بطاطا»، ويسألها: «هل لديك أقوال أخرى»، فتجيب بنظرات حزينة: «لا يا بيه».
يعاود وكيل النيابة النظر في التحريات التي قدمتها مديرية أمن الجيزة، والتي تحتوي على صور ملتقطة بكاميرات الهواتف المحمولة أو عدسات مصورين محترفين، ويلقي نظرة خاطفة على تقرير الإجراءات الأمنية الملحق بتقرير التحريات، الذي يوضح انتشاراً مكثفاً للجيش والشرطة في مداخل ومخارج الميدان المطل على اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول، ثم يأمر بحجز المتهمين 15 يوماً على ذمة التحقيقات لبيان مدى تورطهم فى أعمال العنف والإرهاب والترويع.
عبثاً تحاول بائعة الحلوى أن تجد إجابة وافية لمصير والدها المصاب في الأوراق المتناثرة على مكتب النيابة. تمسك بمتكأ الكرسي لتنهض باحثة عن نهاية راضية لمستقبل بات في علم الغيب بسبب فوضى الجماعات الإسلامية الطامعة بكرسي الرئاسة.