ثمة محطة محروقات على الزاوية. في مواجهة الموقف الذي انفجرت فيه السيارة تماماً. وإلى الأمام قليلاً، باتجاه المشرفيّة، تعرف المنطقة باسم «السندريلا». هناك، أفران شهيرة تحمل هذا الاسم الرقيق. أمس، وصلت شظايا الزجاج إلى «سندريلا». وخلف الحفرة الكريهة، هناك شارع تكثر فيه الحملات إلى الأماكن المقدّسة في السعوديّة والعراق وإيران. ربما ليست مصادفة أن تكون الأماكن المقدسة هناك. وفي موقف «مركز التعاون الإسلامي»، الذي ليس أكثر من من استهلاكيّة متواضعة، يمكن العبور إلى الشارع المحاذي. يختصر الموقف الطريق على العابرين. وهذا جزء مما كان يعرف باسم «المربع الأمني» السابق، التابع لحزب الله، أو أحد مداخله بتعبير أدق.
وهو نفسه الذي عجّ أمس بجنود الجيش اللبناني، وعناصر قوى الأمن الداخلي. أمس، في الحادية عشرة صباحاً، اختصر الانفجار حياة الناس. سمع القريبون دويّه القوي، ورأوا الدخان يصعد إلى السماء. وهذا يختصر كل شيء.
لقد سمعوا هذا الصوت من قبل. يعرفونه جيداً. إنه من ذلك النوع الذي يشعر سامعه بأنه خرج من داخله. انفجار يصيب قلوب ضحاياه قبل حواسهم. يقول رجل في متجر على الطريق إلى بئر العبد إنه سمعه في 1985 و«وضعته السعودية». يتحسر على الذين قضوا في التفجير يومذاك، ودفن أغلبهم في «روضة الشهيدين». كانت «الروضة» مقبرة متواضعة. تعاظم الموت وكبرت المقبرة في الضاحية. «آنذاك وجدوا الأشلاء على السطوح». يتابع الرجل ولا يشيح نظره عن السيارات المتوقفة إلى جانبي الطريق. كان مشهداً يتداول على سبيل المزاح. ولكنه ليس مسليّاً إطلاقاً. ولم يكن ما نقلته معظم الشاشات عن التلفزيون مسلياً. لا تصدقوا التلفزيون. ولكن جزءاً وافراً مما يقال صائب. الناس متمسكون بخياراتهم في السياسة وهذا ليس سرّاً. والذي صنع هذه الحفرة يعرف جيداً أن السكان لن يناموا فيها، بل سيخرجون، كما فعلوا أمس، ليرفعوا صور الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، ويرددوا شعارات الولاء، ويرفعوا قبضاتهم بالطريقة ذاتها.
بلا أي شك، يعرف الفاعل ذلك. لقد وضع السيارة في هذه الزحمة كي تقتل أكبر عدد ممكن من الذين لا يعرف وجوههم. الجيران لا يصدقون عدم سقوط ضحايا. والتفسير المنطقي الوحيد أنه خوف، ولذلك هو أخلاقي تماماً، وهو في مكانه. عدد الجرحى كبير، لكن قوة الانفجار أعظم مما بدت عليه على التلفزيون. والواقع أن عناصر الحزب الذين اضطروا إلى الانتشار، لأول مرة، منذ فترة طويلة، بسلاح فردي ظاهر، لضبط الذهول، بذلوا مجهوداً مضاعفاً لثني الناس عن قذف التحليلات. كان يمكن، بوضوح تام، مشاهدة هؤلاء العناصر وهم يطلبون من الغاضبين عدم المبالغة في اتهام أطراف لبنانيّة أو عربيّة في الجريمة. تجاوب الناس أحياناً، ولا لوم عليهم إن لم يتجاوبوا. هذا ليس تبريراً، لكنها سيكولوجيّة الجماعة. كانت هذه محاولة صريحة لقتلهم. الحديث عن الفاعل ليس مهماً في هذه الحالة. سرت شائعات كثيرة عن القبض على انتحاري طامع بقتل الأرض لأجل السماء، لكن المحتشدين لم يغادروا الساحة، بل تسمّروا فيها بسذاجة. وبعضهم أحرجوا الحزب عندما تعرضوا لموكب وزير الداخليّة. مجدداً، اصطدم الحزب بالبيئة الغاضبة، وطالب الجميع بالمغادرة. أُطلِقت النار في الهواء كي يغادر موكب الوزير. والسبب الحقيقي لغضب الناس من مروان شربل، وإن كان لا شيء يبرر الاعتداء عليه، ليس متلازمة «غياب الدولة» الشهيرة، ولا «فولكلوريّة» شربل المعتادة. يشعر الناس في حالات مشابهة بأنهم قادرون على فعل أي شيء، وأن الغضب يسوّغ لهم الاستعراض. أحرج تصرف المحتشدين الحزب، ربما على القدر ذاته الذي أحرج منه الوزير شربل بعد نشر صوره مع الشيخ أحمد الأسير بين الورود. ولا ورود لبئر العبد. ولا شموع. سيبدو هذا منحازاً، ولكن من حق الذين جرحوا أن يسألوا عن ورودهم وعن شموعهم. لديهم قصصهم وأشجارهم ومراييل مدارس أطفالهم أيضاً. حتى تأتي الإجابات، هناك لبئر العبد حفرة. قطرها 3 أمتار وخمسون سنتيمراً. عمقها الفعلي متر ونصف، لكنها سحيقة، وفيها ألم عميق. لبئر العبد، كما يذكر أهله، صواريخ إسرائيليّة دمرت منازلهم، والانفجار السيئ الذكر ذاته عام 1985. اغتيل مسؤول حزب الله غالب عوالي قبل 9 أعوام في مكانٍ قريب، لكنه كان هدفاً محدداً من عدو محدد. واليوم، الناس كلهم أهداف متحركة، تماماً كما في 1985: «والفاعل نفسه»، لا يجد رجل بخواتم كثيرة في إصبعه حرجاً من إعلان هذا.
فلنعد بث الشريط منذ البداية. نزيح التلفزيون جانباً وننصت. إنها الحادية عشرة صباحاً، وهذا هو الانفجار المرتقب. هل هناك من يساجل في كونه كان مرتقباً؟ هل هناك من تسوّغ له نفسه أن يتفلسف؟ إنه الوحش تليه صفارات الإسعاف في بيروت. تعرفون المشهد. إطفائيون يصوبون الخراطيم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. مسعفون يضعون الجرحى في العربات، ويحتشد الناس، ثم تعم الفوضى. إنها العرقنة. سمّوها ما شئتم. يمكننا أن نعيد هذا الشريط ألف مرة، وفي كل مرة سنخرج بالصور ذاتها. يضع الموت في مقام متساوٍ إلى درجة لا تحتمل. وإن كنا بشراً حقيقيين، لا نحتاج إلى ذكريات في المكان، ولا إلى أصدقاء هناك، كي تبقى صفارات الإسعاف أقوى من أي صوتٍ آخر. ستبقى تئن في الرؤوس، ويمكن مشاهدتها وهي تلمع في عيون المتسمرين قرب الحدث، كأنهم لا يعرفون أنهم أهداف لهذا الإرهاب المتجول. يتجول متسلحاً بشاشات ودول وإمارات وتقريباً مثقفين يوزعون شماتتهم التافهة أينما استطاعوا. ولكن الواقفين مجرد واقفين. ناس خرجوا إلى الصباح كما في كل يوم. إنهم مدنيون ولا يمكن أن يكونوا مدنيين أكثر من ذلك. أولاد يرتدون قمصاناً رياضيّة ونساء وضعن في أكياس النايلون حاجيات المنازل الفقيرة. إنها منطقة فقيرة ولا أحد يمكنه أن يساجل في هذا أيضاً. يمكن أن يكنّ وضعن قلوبهن في الأكياس إلى جانب السأم. سأم عميق من كل هذا. سأم لا قعر له، ولن ينتهي في آخر الحفرة التي أحدثها الانفجار. والناس يخشون ما يخشونه: أن يكون سأماً طويلاً، يسبقه التحريض الأرعن، وتتبعه دائماً صفارات الإسعاف، فهل من يسمع هذا الصوت الموجع؟