كان مشهد الاثنين الماضي سوريالياً في طرابلس. تناقضات كثيرة شابت تحركات التيارات الإسلامية والمجموعات المسلحة في المدينة، تفاعلاً مع أحداث صيدا التي أدت إلى إنهاء الجيش حالة الشيخ أحمد الأسير فيها. فمنذ صباح أول من أمس، عاشت طرابلس انفلاتاً أمنياً واسعاً. بدت المدينة كأنها قد استسلمت للمجموعات المسلحة التي شلت حركتها وقطّعت أوصالها على نحو شامل، مع تهديد بتصعيد العنف إنْ لم يوقف الجيش هجومه على مقر الأسير في عبرا. وزاد من خشية تدهور الاوضاع المواقف الحادة ضد الجيش التي صدرت عن مشايخ وجماعات إسلامية لها ثقلها في المدينة.
لكن مع اقتراب غروب ذلك اليوم تراجع الظهور المسلح تدريجاً، بالتزامن مع ورود أنباء عن سقوط معقل الأسير في قبضة الجيش. ذاك المساء مثّل «امتحاناً للإسلاميين والمسلحين في طرابلس، الذين انسحبوا من غير أن يسألهم أحد عن مصير التهديدات التي أطلقوها في وجه الجيش، ولا مصير المهلة التي أعطوها له لفكّ الحصار عن عبرا، وإلا فسيصعّدون الموقف في وجهه».
ويرى سياسيون طرابلسيون أن «الإسلاميين والمجموعات المسلحة في طرابلس بدأوا يتحسّسون رؤوسهم خوفاً من أن يأتي الدور عليهم في المرحلة المقبلة، بعدما رأوا أن الجيش قد حسم الوضع في صيدا سريعاً، إثر حصوله على تأييد محلي وإقليمي ودولي لإنجاز خطوته، والتفاف أغلب اللبنانيين حوله، فضلاً عن حصوله على غطاء سياسي، خصوصاً من القيادات السياسية والدينية السنيّة، لإنهاء حالة الأسير».
ومع أن الأوضاع في رأي المراقبين ذاهبة نحو استقرار نسبي في المرحلة المقبلة، وليس نحو حسم عسكري في طرابلس، فإنهم يرون أن الجيش «بعدما حصل على جرعة معنوية كبيرة استعاد معها هيبته التي فقد قسماً كبيراً منها أخيراً، لن يتردد في القضاء على أي ظاهرة مشابهة لظاهرة الأسير، وتحديداً في طرابلس».
في أوساط الإسلاميين آراء لا تختلف كثيراً عمّا سبق، إذ ترى مصادرهم أن الأسير «كان أكثر شعبية وحضوراً من أغلب نظرائه في طرابلس، وتمتع بكاريزما إعلامية غير متوافرة عند معظمهم، وامتلك إمكانات مالية وتسليحية ضخمة، ومع ذلك حصل معه ما حصل، فكيف سيكون مصير من هم أضعف منه؟».
وتؤكد المصادر أن الإسلاميين يراجعون حساباتهم، وأن ما قاموا به من تصرفات غير مقبولة في الشارع الطرابلسي كان لامتصاص نقمة جمهورهم لا أكثر ولا أقل. ورأت أن «أفضل خدمة يقدمونها لأنفسهم قبل الآخرين، هي توقفهم عن حملات التحريض على الجيش، وتسعيرهم الخطاب السياسي والمذهبي».
ورغم أن المصادر الإسلامية ترى أن «أداء الجيش ليس جيداً حيالنا في الغالب، نظراً إلى ضعف التواصل بيننا وبينه، فإن أي معركة معه خاسرة حتماً، لأن القيادات السياسية السنيّة والجمهور السنّي ليسا ضد الجيش، لكون السنّة يشكلون عموداً فقرياً فيه، كما أن أغلب شهدائه في معاركه معنا ومع غيرنا هم من السنّة».
قبل أشهر كان نواب تيار المستقبل وقياداته في طرابلس يطالبون الجيش بإزالة المربعات الأمنية من المدينة، ونزع السلاح غير الشرعي منها، قاصدين بذلك سلاح جبل محسن. لكنهم يوم الاثنين بلعوا ألسنتهم رغم أن طرابلس كلها تحوّلت إلى مربعات أمنية. والمفارقة أن المسلحين الذين روّعوا الأهالي وأجبروا المؤسسات التجارية على إقفال أبوابها بالقوة، لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاه جبل محسن!
تعترف المصادر الإسلامية بأن «حسم الجيش سريعاً معركة عبرا، جعل الإسلاميين في طرابلس وخارجها يعيدون حساباتهم»، لكنهم رأوا في موازاة ذلك أن أحداث صيدا «أثبتت أن الإسلاميين بمختلف توجهاتهم لا يتقنون قراءة الواقع السياسي جيداً، وأن ردّ فعل بعض المشايخ رسّخ هذا الانطباع».
بعض قدامى المقاتلين الذين شاركوا في المعارك التي خاضتها حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس أوائل ثمانينيات القرن الماضي، خرجوا من تجربتهم بخلاصة وهي أن «السنّة في لبنان لم يشكلوا ميليشيا عسكرية في أي مرحلة إلا فشلوا، مثلما حصل مع حركة التوحيد والمرابطون، لأن السنّة أكبر من أن يكونوا بحاجة إلى ميليشيا، وتاريخهم يدلّ دائماً على أنهم استطاعوا أن يربحوا بالسياسة ما لم يستطع غيرهم ربحه بقوة ميليشيات الأمر الواقع».
وعلى عكس غيرهم من السياسيين والإسلاميين الذين رأوا أن إسلاميي طرابلس تعلموا جيداً الدرس الذي حصل مع الأسير في صيدا، يخلص قدامى حملة السلاح إلى أنه «ما دام في المدينة أشخاص يستفيدون مالياً من انتشار الفوضى فيها، وهناك من يدعمهم ويغطّيهم ويُصوّرهم على أنهم يدافعون عن كرامة المدينة، فإن أحداً لم يتعلم الدرس بعد».