خلال نحو 24 ساعة، أنجز الجيش، عصر أمس، في عبرا الجديدة عمليته العسكرية لإزالة المربع الأمني الذي كان أحمد الأسير قد استحدثه في محيط منزله ومصلى بلال بن رباح. انتفض الجيش لكرامته، ولم يقف عند الكلام الملتبس لبعض السياسيين المنادين ببسط سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، وخاصة في فريق 14 آذار. كما أنه لم يلتفت إلى الموقفين الأميركي والسعودي اللذين تعاملا مع اشتباكات صيدا كما لو أنها تدور بين مجموعتين مسلحتين، لا بين مجرمين وجيش.
ميدانياً، تمثل «الإنجاز» باقتحام فوج المغاوير للمصلى، بعد إسقاط الدشم والحواجز الاسمنتية والتحصينات حول المربع، والتي أطلق من خلفها الرصاص والقذائف على الجيش. قبل ذلك، شهدت عبرا ليلة من الاشتباكات العنيفة بين الجيش ومقاتلي الأسير، حيث سمعت أصوات الأسلحة إلى الأقضية المحيطة بصيدا. وحاولت قوة من فوج المغاوير التقدم فجر أمس لاقتحام المصلى، لكنها فوجئت باستهدافها من قبل القناصة المنتشرين على أسطح المباني المحيطة، ما أدى إلى سقوط ثلاثة شهداء لمغاوير الجيش وخمسة جرحى، استشهد اثنان منهم لاحقاً بسبب خطورة إصابتهما. القنص وانكشاف الجنود أمام المقاتلين المتمركزين فوق رؤوسهم أعاقا اقتحام الجيش وأبطآ حركته لساعات إضافية.
في هذا الوقت، كانت الاشتباكات تشتد حيناً وتهدأ حيناً آخر، إلى أن أسكتت مصادر نيران المسلحين بعد الظهر على نحو شبه كامل. وبين هذا وذاك، أجلى الجيش بالتعاون مع فرق الدفاع المدني السكان المدنيين من الشقق، حيث جال عليهم واحداً واحداً وطلب منهم مغادرة المنطقة حرصاً على سلامتهم. كما أصاب نقاط القناصة ومطلقي القذائف وجهز قوة كبيرة لاقتحام المصلى ومحيطه وتمشيط المنطقة.
عند الرابعة عصراً، توجهت الأنظار إلى عبرا بعد انتشار أنباء عن سقوط المربع الأمني. توافدت وسائل الإعلام وبعض السكان لتفقد منازلهم نحو المنطقة. اكتشفوا هول الحرائق والدمار والخسائر الفادحة التي لحقت بالمباني الحديثة والشقق الفارهة وتفقدوا الخراب والشظايا وأسلاك شبكات الكهرباء وأغصان الأشجار المتقطعة التي تملأ الشوارع السكنية التي غطاها الزجاج المتطاير من نوافذ الشقق. لكن أين أحمد الأسير؟ لا جواب واضحاً لدى عناصر الجيش المنتشرين بكثافة في كل الأنحاء. يمنعون المدنيين من التجول بين الأحياء تخوفاً من وجود قناصة لم يستسلموا بعد. لكنهم في الوقت ذاته، لم يعرفوا مصير الأسير الذي صنع مشهد الخراب المتكامل الذي حلّ بعبرا. مصدر عسكري قال لـ«الأخبار» إن الأسير اختفى ولم يعثر عناصر الجيش عليه في الشقق والزوايا التي مشطوها بعد دخولهم. من هنا، رجّح بأنه قد يكون تمكن من الفرار مع فضل شاكر وحوالى عشرين من مقاتليه. لكن، كيف له أن يهرب في ظل الطوق الأمني المحكم حوله؟ اقتحام الجيش للمربع الأمني جعله مساء أمس أمام اكتشافات بالجملة لحجم التحصينات والإجراءات والتسلح التي اتخذها الأسير طوال الفترة الماضية وغطيت بخيمة حديدية ضخمة ربطت بين مكتبه ومنزله. ملاجئ ومخازن تضم كميات كبيرة من مختلف أنواع الأسلحة، والبحث جار عن احتمال العثور على مخابئ ومخارج سرية تمكن من الخروج منها. الجدل الذي رافق اختفاء الأسير في نهاية عملية الجيش، أنتج شائعات متعددة حول مكانه، في ظل معلومات أمنية عن أن جهازه اللاسلكي الخاص سجل آخر نداء له إلى المقاتلين بعيد الثانية من فجر أمس. بعض الشائعات تحدثت عن تمكن موكب الشيخ سالم الرافعي من سحبه ليل أول من أمس عندما حضر إلى صيدا للطلب من الجيش وقف إطلاق النار، فيما راجت شائعات أخرى عن كون الشيخ الفار قد وجد الملجأ السري في حمى حليفيه الجماعة الإسلامية أو النائبة بهية الحريري في مجدليون، علماً بأنه وإن وجد الملجأ الآمن المؤقت، فإنه لن يحميه من الإجراءات القضائية التي بدأت أمس بادعاء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر بحقه وبحق فضل شاكر وعدد من أنصارهما. لكن وفي كل الأحوال، فقد الشيخ جزءاً كبيراً من هالته التي نسجها حول نفسه. فقد فرّ من المعركة تاركاً خلفه العشرات من مقاتليه الذين قادهم إلى مواجهة ضد الجيش، وتناسى تهديداته ووعيده بأنه سيقاتل الجيش وهيمنة حزب الله «حتى آخر نقطة دم في آخر طفل لدينا».
إلا أن الدم الذي سال على إسفلت عبرا كان لنحو 40 من مقاتلي الأسير في حصيلة أولية، من بينهم ابن شقيق فضل عبد الرحمن الشمندور. فيما أكد مصدر أمني أن الجيش اعتقل أكثر من 57 من المقاتلين، من بينهم من فضّل تسليم نفسه بنفسه. اللافت أن الفئة القليلة منهم من اللبنانيين، فيما الجزء الباقي من السوريين والفلسطينيين وعدد من السودانيين.
وفيما الجيش يتعقب أثر الأسير وفضل اللذين «لن يعودا إلى سابق عهدهما في عبرا»، لفتت المصادر إلى أن مصلى بلال ستسلم إدارته إلى دار الفتوى، فيما سيشغل الجيش في الفترة الأولى المراكز والشقق التابعة للأسير ومجموعته.
على صعيد متصل، أعلن وزير التربية والتعليم العالي حسان دياب تأجيل الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة المقررة اليوم في مراكز تقديم الامتحانات العشرة الواقعة ضمن مدينة صيدا حصراً، إلى وقت يحدد لاحقاً. وصدر عن الجيش بيان أوضح فيه أن وحداته تواصل عملياتها العسكرية في صيدا وعبرا للقضاء على المظاهر المسلحة وتوقيف المعتدين على مراكز الجيش وإعادة فرض الأمن والاستقرار. ولفت البيان إلى أن العديد من المسلحين عمدوا الى القنص على عناصر الجيش باستخدام المراكز الدينية سواتر لهم واتخاذهم المواطنين الأبرياء دروعاً لهم لتفادي المواجهة المباشرة».
وفي الحصيلة شبه النهائية، أعلن الجيش أن عدد شهدائه في معركة صيدا ارتفع الى 18 شهيداً وأكثر من مئة جريح.