الجميع يعرف ذلك الطفل. ليس مميزاً إلى هذه الدرجة، ولكنه طفل يتكرر. هذه سمته الأساسيّة، إنه كثير، وينتمي إلى الزحمة لا إلى المدرسة. يبيع الألعاب التي في يديه لأطفال آخرين. الجميع يعرف أن هذا الطفل، الذي رأوه ذات مرة، قرب «برج الغزال» أو على «طريق المطار»، يتسلل بخفة بين السيارات، ليس طفلاً واحداً، بل إنه أطفال كثيرون. إنه طفل يتكرر. في الواقع، هذا الطفل، هو واحد بين مليون ونصف (ثمة تقديرات تشير إلى مليون و800 ألف)، يعضّ الجوع معظمهم، وتنبح «شوفينيّة» بعض اللبنانيين ضدّهم. إنه طفل يحترق في الشمس باسم جميع الضحايا.
وكي يكتشف الناظر إلى الخريطة العملاقة حيوات النازحين، عليه أن يمرّ بسلسلة من البلديّات التي اتخذت قرارارت «عبقرية» لمواجهة «خطر النزوح». صار الأمر معروفاً. بسكنتا. بطشيه. عوكر. وادي شحرور. والبقية تأتي. في هذه المناطق، ومناطق أخرى كثيرة، ترتفع اللافتة الشهيرة التي تطلب من السوريين «عدم التجمع والتجول بعد التاسعة ليلاً». تعرفون، الشرّ يهطل بعد التاسعة. والشر سوري حصراً. اللبنانيون ملائكة. والطبقة السياسية الحاكمة دليل على ذلك. مؤيدو «سجن» السوريين بعد التاسعة يقولون إنهم يخافون من تفاقم الأعداد. ونظريّاً، على مقاس سوسيولوجي لبناني، هم محقون في ذلك، فالأرقام مخيفة والدولة لم تظهر. كي لا ننسى، الدولة نأت بنفسها. وعلى سيرة الدولة، القانون، إذا كان له معنى في هذه البلاد، وفقاً لمتابعين قانونيين، يجيز للبلديات «تنظيم شؤونها بنفسها على هذا النحو»، ولكن «قطعاً لا يحق لها التمييز بين السكان». وفي أية حال، الخائفون من اللاجئين نوعان: الأول مشبع بخلفية عنصريّة ضد السوريين والأجانب عموماً، وأهل النوع الثاني خائفون لتدحرج الفوضى قرب منازلهم. والنوع الأول، يرفض أن تكون الإجراءات الأمنيّة متساوية بين اللبنانيين والسوريين. وهذا نوع صلف. يقول متابعون إن رقعة العيش السوري في زحلة مثلاً تضيق بالطرفين، اللبناني والسوري، حيث يوجد هناك تقريباً أكبر تجمع للنازحين. أما عن «تفنيصة» الأحزاب الداعمة لـ«الثورة السوريّة»، فالسوري سوري: ولا ينقص إلا أن يضعوا له إشارةً على كتفه تشير إلى هويته. في زحلة تحديداً، يؤكد العارفون بتوزيع المساعدات، أن حزب الكتائب في «طليعة» المتصدين لتجول السوريين والتضييق عليهم، في البلديات التي يحضر فيها، ولا سيما في زحلة نفسها. يعتبرون هذا «موقفاً داخليّاً» ينسجم مع «العصب المسيحي». يحرسون «الجرة» من «الغريب»، كما في مسرحيّة زياد الرحباني الشهيرة «شي فاشل». ولا شيء فاشلاً هنا سوى الدولة والمجتمع المدني المشرذم بينها، إذ من الإنصاف القول، إن تحميل المسيحيين هذا العبء، عبء الدفاع عن خوفهم، ليس أخلاقيّاً تماماً. في الواقع، السوريّون (جزء كبير منهم) الذين نزحوا، بمعزل عن حاجتهم إلى مقومات العيش بكرامة، فهم ليسوا معتادين البيئة اللبنانيّة، وهذا ليس دفاعاً عن أي قرارٍ ضدّهم. بيد أن إحصاءات قوى الأمن الداخلي، تشير إلى تطور في مستوى الجريمة، ليس سببه أن النازحين سوريين، أو غواتيماليين، ولا علاقة لجنسيتهم بذلك، بل لأن خللاً ديموغرافيّاً وقع. نتحدث هنا مثلاً عن 5444 موقوفاً سورياً، منذ بداية الأزمة في آذار 2011، وحتى الشهر الفائت. وهذا الرقم هو 17% من مجموع الموقوفين على الأراضي اللبنانيّة، الذي يبلغ 32 ألفاً و320 موقوفاً. ربما اتخذ عرض التهم الموجهة إلى هؤلاء السوريين شكلاً تحريضيّاً. لا فائدة منه. غير أن المتابعين يجزمون بأنّ عدم تلقي جزء وافر من النازحين أي خدمات يؤدي إلى ارتكاب المخالفات، وبالدرجة الثانية، معظم النازحين أتوا من مناطق النزاع «الحاميّة»، وغالبيّة سكانها من الأرياف، ما أدى إلى اصطدامهم ببيئة أكثر تحرراً في لبنان. والحادثة التي وقعت قبل أيام قليلة في منطقة «حي اللجا» قد تندرج في هذا الإطار؛ إذ أدى تحرش أحد العمال بفتاة لبنانية إلى عواقب وخيمة، انتهت بعقاب «المتحرش» على الطريقة اللبنانيّة، بما تيسر من آلات حادة. والقصة ليست قصة «بيئة حاضنة» وحسب؛ إذ يشير متابعون إلى أن مناطق «مؤيدة للثورة» بدأت تضيق ذرعاً من الأعداد الكبيرة، ككترمايا مثلاً. والمساعدات الانسانيّة، التي من شأنها «تنفيس» الاحتقانات، قائمة على السياسة حيناً، والجمعيات أحياناً، والأمم المتحدة غالباً، وهذا ما يقوله نازحون سوريّون أنفسهم، مشيرين إلى أن للأمم المتحدة آلية معقدة للعمل. في الجنوب مثلاً، ينزح هؤلاء نزوحاً جديداً، داخل الأراضي اللبنانيّة، كلما أرادوا الحصول على مساعدة. حسناً، تسمي الأمم المتحدة هذا: «الشفافيّة». لقد حصرت مراكز التسجيل ببعض المناطق، للحصول على «قسيمة شرائيّة» (شهريّة) من مراكز محددة أيضاً، تبلغ قيمة الواحدة منها 42 ألف ليرة لبنانيّة. وفي الشمال يواجه النازحون المشكلة ذاتها، حيث تبعد مراكز المنظمة الدوليّة عن تجمعات النازحين. والأنكى، أن هؤلاء يؤكدون أنّ الأسئلة التي توجه إلى هؤلاء في المراكز لا تحتمل. يسألون عن الخدمة العسكريّة، وفي أي وحدة أدوا هذه الخدمة في الجيش السوري، وأشياء من هذا النوع. والدولة اللبنانيّة، بدورها، على ذمة نازحين، تعرقل استئجار السوريين للمنازل «تجنباً لقيام مخيّمات جديدة على غرار المخيّمات الفلسطينيّة»، فتشترط عدم تقديم مساعدات بغرض تأجير وحدات سكنيّة للنازحين. ولكن هؤلاء يعملون. ومعظم ما استأجروه أو سكنوه حتى الآن ليس منة من أحد، بل من عملهم. وليس ذنبهم إن كانت «البيئة اللبنانيّة» لا تحضن إلا العنف، وتحرّض على آثام ترتكب بحقهم في مواقف التعميم إذا «تنطحت» لها بلديّات وأحزاب ما انفكت تنهل من ثقافة «الغريب والجرة». وقد تكون تلك آثاماً لا تستر، لأنها في الأساس تحصل كي يصفق لها جمهور عريض. ومن يعلم؟ قد تتسع الأخطاء بحيث يستحال مواراتها، فالعدد (النازحون) آخذ في الصعود، والجميع الآن ينتظرون «معركة حلب الكبرى». وحتى ذلك الوقت، قد ترتفع اللافتة في أكثر من منطقة. وبالنظر إلى إحصاءات قوى الأمن الداخلي، سيكون ظهور هذه اللافتات مفهوماً، ولكنه غير مبرر حتماً. في جميع الحالات، إن ترك ذلك الطفل يلهث خلف السيارات، كي يبيع الألعاب في الزحمة، لن يكون حلاً عادلاً أبداً.