رحل يعقوب الشدراوي، رحل الأستاذ والمخرج الطيب والقاسي في آن واحد، سواء مع تلامذته في معهد الفنون، أو مع الممثلين الذين أدارهم على خشبات المسارح. في هذه المناسبة، أذكر حادثة وقعت معي في أواخر عام 1984 حين كنا نتمرّن في «المركز الثقافي السوفياتي» في بيروت. من دون انتباه، ارتطمت قدمي بإحدى الحدائد، ما سبّب نزفاً في أحد الأصابع. وجاء دوري في صعود الخشبة، لكنّي أردت التوقف لمعالجة النزف فصرخ بي يعقوب: «يا رولا، عندما يكون الجمهور في الصالة لن تستطيعي فعل ذلك. وأريدك أن تعتبري منذ هذه اللحظة أنّه هنا، وعليك متابعة التمرين».
خجلت من نفسي وسارعت إلى تأدية دوري رغم الألم. وعند انتهاء المشهد، عالج بنفسه الجرح. عادت هذه الحادثة إلى ذاكرتي في نهاية 2004 لدى إصابتي بالسرطان، وأعطتني الزخم لمتابعة مهماتي في «المكتبة الوطنيّة» الفرنسيّة طوال مدة العلاج.
كان يعقوب واحداً من الأساتذة الذين اختاروا البقاء في بيروت الغربيّة. ورغم معاناة هذه المنطقة في الحرب، قدّم عدداً من أهم الأعمال. وشاءت الصدف أن تكون آخر مسرحيّة شاركت فيها قبل مغادرتي بيروت في الثمانينيات من إخراجه، هي «نزهة ريفيّة غير مرخّص بها». وقُدّمت على مسرح الـ«بيكاديللي» الذي طالما حلمت باعتلاء خشبته محبّة بفيروز التي صدح صوتها في قاعته مراراً. تحقّق حلمي في هذا العمل الذي قُدّمت عروضه في العيد الستّين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. حكى الشدراوي وحكينا معه عبرها، تاريخ لبنان من الاحتلال العثماني مروراً بالفرنسي والحرب الأهلية لغاية حرب شارون على لبنان وحصار بيروت الذي انتهى بترحيل أبو عمّار (ياسر عرفات) مع آلاف المقاتلين الفلسطينيين. وقبل أيام من التمارين، كان لي لقاء مع يعقوب في مقهى «كافي دو باري» في الحمرا. قال لي: «أريدك أن تلعبي أدواراً عدة في المسرحيّة، ومنها أن تؤدي في نهاية العمل دور أمّ فلسطينيّة تودّع ابنها الراحل على إحدى السفن». خفت أن تغلبني العاطفة، وخاصة أنّي بكيت طويلاً عندما شاهدت ذلك الرحيل عام 1982. لكنّ يعقوب بثّ الطمأنينة في قلبي قائلاً: «لا تقلقي، سأساعدك». وهكذا كان. كان بدني يقشعر، ودموعي تنهمر خلف خمار أسود، وأنا أتقدّم في ختام المسرحيّة نحو منتصف الخشبة بخطوات بطيئة قام يعقوب بعدِّها كما يجب على صوت محمود درويش صادحاً «يا أهل لبنان الوداعا» قبل انسدال الستار أمام جمهور كبير اشتعل بالتصفيق.
اليوم وقد رحل مخرج «أعرب ما يلي»... اليوم وقد قال لنا «الوداعا»، تنهمر دموعنا ليس فقط عليه، بل أيضاً على رحيل آخر يعيد إلى الذاكرة ضحكاتٍ من عمرٍ مضى، ما زالت تطنّ في مبنى مطل على الروشة، حيث الحزن يفوق البحر الذي كنّا نشاهده معه أحياناً من الطبقة الأخيرة.