يتسلّى الطرابلسيون بلعبة لا يملكها سواهم: يحتلون شهرياً، يومين أو أكثر، بضعة شوارع من مدينتهم ليخوضوا حرباً عبثية أخرى، يعلمون أنها ستنتهي بتسجيلهم خسارة أخرى. لا يحتاجون حججاً لتبرير جنونهم. يكفيهم أن من يسكنون جبل محسن ينتمون إلى طائفة غير طائفتهم. إنها الديمقراطية التي تستوجب من أشرف ريفي الحفاظ على أبهى صورها، ولو من دون تنّورة.
ليس في المستشفيات أسرّة شاغرة. يشغل المقاتلون نصفها، ويحجزون النصف الآخر لرفاقهم. لا تحصي المدينة قتلاها، ولا ترفع صورهم، ولا يعرف أبناؤها الكثير عن أسمائهم. يعلمون في جبل محسن أنهم يقاتلون الموت، أما في المحاور الستة التي تحاصر الجبل فلا يكتشفون ذلك، كل بضعة أسابيع، إلا متأخرين. تتستّر المدينة على قتلاها؛ كأن الكشف عنهم يُشمت خصومهم بهم. وفق التقليد السلفي الجديد على المدينة لدفن الشهداء، يتاح فقط للأمهات اللواتي يعدن «أخوة الشهيد» بعدم البكاء أن يلقين نظرة وداعية عليه، قبل دفنه، على عجل أيضاً.
جديد هذا الأسبوع «قادة المحاور». ليس في المدينة نيرون واحد؛ كثيرون كلّمهم الله هنا. المحاور هي: المنكوبين وقائده عامر أريش، الريفا ويقوده سلفيون غالبيتهم مقربون من نائب عكار خالد ضاهر، البقّار ويقوده السلفي المتهم بالانتماء الى «القاعدة» حسام صبّاغ، الشقراني ويقود سلفييه «الموقوف السابق» شادي المولوي، الحارة البرانية وقائدها زياد علوكي، ومحور التبانة الذي يتنازع النفوذ على نقاطه الست سعد المصري وحسام صباغ وأمراء مجموعات صغيرة آخرون. أما عميد حمود وكنعان ناجي فتتنقل مجموعاتهما على خط التماس للمساندة وتكثيف ضغط النار.
بعض المقاتلين ولد على هذه المحاور وشاب. يتركون انتماءاتهم السياسية في منازلهم حين يتعلق الأمر بلعبة الطفولة. يمكن أن تكون مستعداً لبذل دمك إكراماً للرئيس عمر كرامي في معركة انتخابية بينه وبين تيار المستقبل. يمكن أن يكون لحم كتفك الذي تسند الرشاش عليه من الرئيس نجيب ميقاتي. يمكن أن تكون توحيدياً. مع ذلك ستهرع إلى المحور الأقرب إلى منزلك إثر انطلاق الرصاصة الأولى لتشارك في اللعب. ينضم إلى الأطفال السابقين نازحون سوريون يفترضون أن اطلاقهم الرصاص باتجاه جبل محسن يسرّع عودتهم إلى منازلهم في تلكلخ وبابا عمرو وغيرهما. وإلى جانب السلاح الذي وُزّع بكثافة استثنائية في اليومين الماضيين، قبل وبعد زيارة رئيس فرع المعلومات العميد عماد عثمان للمدينة وعقده اجتماعات مع مقاتليها، استفاد هؤلاء من نزوح عدد كبير (يقدّره مصدران في استخبارات الجيش بنحو مئة سلفي) من القصير، قبيل إطباق الجيش السوري وحزب الله حصارهما عليها. حاول قائد محور المنكوبين عامر أريش استدراج فلسطينيي البداوي الى المعركة. أطلق نيرانه من نقاط محاذية للمخيم، فأصابت قذائف الجبل، حين ردّ على مصادر النيران، البداوي. تدخّلت حركة فتح النافذة في المخيم بسرعة لإبعاد أريش، واتصلت بالجبل لتصويب إحداثيات مدفعيته. علماً أن قذائف الجبل نادراً ما تميز بين منزل وآخر بحسب انتماءاتها السياسية، وتلعب دوراً رئيسياً في توحيد الموقف الطرابلسي المعادي له.
بعيداً عن المحاور التي لا تشهد منذ نشأتها غير الانتصارات المجازية والهزائم، تجلس المدينة أمام التلفزيونات. لا تفعل شيئاً. ليس في وسعها أساساً فعل شيء. يمنع بعد شارع التل، في غالبية أحياء الزاهرية وباب التبانة والمنكوبين والقبة والأسواق القديمة، الاقتراب من النوافذ. يتلصلصون على الطرقات الخاوية محاولين فهم ما يحدث. يغدو المشهد مملاً بعد عامين، يلوّنه المطر شتاء والحر وعرق المسلحين صيفاً. أما النقاط فثابتة: لا يمكن أحداً التقدم ولو خطوة واحدة. يعلم أهالي المدينة أن يومهم أفضل من غدهم. لا أحد يعلم ما يحمله له الغد. يشارك حزب الله في هجوم الجيش السوري على القصير، فيرد السلفيون المسيطرون على طرابلس بالهجوم على جبل محسن.
أول من أمس، أخلى جيران عضو النائب محمد كبارة منازلهم بعد تكثيفه اجتماعات المسلحين في منزله خشية تعرضه للقصف. تجاوزت إحدى القذائف الحدود الوهمية في اتجاه مكتب أحد المقاتلين في منطقة المينا. يتخذ كل أزعر، في غياب أجهزة الدولة، حيّاً له. تتنقّل المشاكل اليومية من حي إلى آخر. ينتشر المسلحون في غالبية الأحياء على جانبي الطرق: لا حواجز. فقط مسلحون على جانبي الطرقات الخالية. الصحيفة الطرابلسية المقربة من المستقبل، ضمّت المدير العام السابق للأمن الداخلي أشرف ريفي إلى النائبين كبارة وسمير الجسر والنائب السابق مصطفى علوش ووزيرة المال السابقة ريا الحسن مرشحين عن المقاعد السنية الخمسة في المدينة. ولم يلبث ريفي أن عاد من أستراليا لـ «يكشّ» ملك المدينة.
ليس ملك طرابلس، في الحسابات الميدانية، نجيب ميقاتي ولا فيصل كرامي، إنما محمد كبارة. حتى أول من أمس، كان نائب المستقبل رئيس عصابة زعران المدينة، يتحكّم ليس بتيار المستقبل وفرع المعلومات فقط، إنما بـ «الجيش السوري الحر» و«جبهة النصرة» أيضاً. هو من تستهدفه معركة المدينة الحالية. آن أوان قبض المستقبل في الشكل والسعودية في المضمون، ممثلين بريفي، على دفة الزورق الشمالي.
يعلم الكثير من أهالي طرابلس ما سبق. تطلق غالبيتهم على مسلحي المحاور وصف الزعران ولا يلبثون أن يدافعوا عنهم. يعلمون أن غالبيتهم تربية حركة «فتح» التي دربتهم على الرشاشات لقتال إسرائيل وليس جيرانهم. يعلمون أنهم يتعرضون لأبشع عملية استغلال في سبيل تحقيق هدف سياسي باهت، ويعلمون، أخيراً، أنهم يغرقون المدينة في حرب عبثية تفتك بها. لكنهم، مع ذلك، يدافعون عنهم. تريد المدينة متنفّساً يثبت لحزب الله والنظام السوري قدرتها على رد الصاع. تسلي نفسها بنفسها. كان ريفي يلحق برأي مدينته العام أمس بدل أن يقوده. يعلم أن من يضيئون الشموع بثيابهم الأنيقة، مقارنة بمن يضيئون بالرصاص فوهات رشاشاتهم، لن يصنعوا منه زعيماً. في المدينة من يقرفه الوضع وغالبيتهم فايسبوكيون، وهناك من تزيد الجرعات المذهبية المرافقة للمعارك من حماستهم. وعلى وقع كل ذلك ينتشي المسلحون، كأنهم لا يعلمون أن من يرونه لا يراهم ومن يراهم لا يرونه.