لم تُحسم معركة القصير بعد. تاهت التقديرات بين موالٍ يتحدّث عن «ساعات تفصل عن النصر» ومعارض يتوعّد بـ«حرب استنزاف طويلة». لقد «استوعب» مسلّحو المعارضة السورية الضربة الأولى. انقلب انهيارهم المعنوي تفاؤلاً، فلملموا خسائرهم واستجمعوا القوة لـ«مواجهة حزب الله الذي سيتكبّد أقسى الخسائر على أيدينا». يُكرّر هؤلاء استخدام مصطلح «الانسحاب التكتيكي»، لكن «هذه المرّة إلى منطقة البساتين، حيث سينتظر مقاتلو الحزب طويلاً»، هكذا يقول أحدهم. ويُضيف مسلّح آخر: «لن تكون معركة سهلة، في كلتا الحالتين سنُقتل، إذاً نموت بشرف ونحن نُدافع عن أنفسنا».
تحوي القصير فصائل معارضة مسلّحة عدة، لكنّها غير متجانسة. حالها كحال معظم الميليشيات غير المنظّمة، تفتقر إلى التعاون ووحدة القرار في ظل غياب الرأس الواحد. يتقاسم هؤلاء في ما بينهم منطقة القصير وفق معيار أقدمية الفصيل وقدراته المادية والعسكرية. أكثر هذه الفصائل تنظيماً كتائب «الفاروق»، و«عمر الفاروق»، و«الوادي»، ولواء «أحفاد الصحابة»، ذات الهوى السلفي. وينضوي تحت لوائهم عناصر متشددة يُعرفون بانتمائهم الفكري إلى تنظيم «القاعدة»، لكنّهم قلّة. بينهم أيضاً مقاتلون «غُرباء» يُعرفون بـ«المهاجرين»، قدموا من بلدان عربية وغربية عدة. برز بينهم سابقاً شابٌ أسترالي الجنسية، يحمل إجازة في الكيمياء، قدم عبر مطار بيروت الدولي وانتقل عبر بلدة عرسال إلى القصير. كانت مهمّة هذا الشاب «تطوير أسلوب تركيب العبوات لدى المجاهدين».
أمام هذه الخارطة، ورغم تحصينات المسلّحين، اتُّخذ القرار بحسم معركة القصير بعد فشل المفاوضات معهم. أُلقيت مناشير تدعو إلى مغادرة المدنيين المنطقة، لكنّ معظمهم لم يمتثل. بدأت موجات الهرب، لكنّ بعض هؤلاء رفض ترك منزله طواعية. تنبّه المسلّحون إلى أن بقاء المدنيين بمثابة حبل نجاة لهم، فأجبروا آخرين، ممن همّوا بالخروج متأخرين، على البقاء. ذلك صعّب المهمّة أمام الجيش السوري الذي بات على موعدٍ مع مجزرة في كل رمية عشوائية لا تعتمد إحداثية دقيقة. إزاء ذلك، بحسب ما ذكر غير مصدر عسكري لـ«الأخبار»، اعتمد الجيش السوري على مجموعات «كوماندوس» لا يتجاوز عديدها بضعة مئات، تكون العصب القتالي في القصير، تُنفّذ عمليات ميدانية دقيقة تكون الركيزة الأساس لإنهاء المجموعات المسلّحة والقضاء عليها. وتُرفد هذه المجموعات المحترفة بإسناد ناري كثيف وغارات جوية تُنهك المجموعات المتحصّنة وتُضعف عزيمتهم. وبالتالي، تؤكد هذه المصادر أنّ القيادة العسكرية على يقين بأنّ «هامش الخسائر كبير في معركة كهذه، ولا سيّما أنّ الجيش السوري يواجه مجموعات متحصّنة وسط أحياء فيها مدنيون». أمام هذه القراءة، تُجمع هذه المصادر على وصف ما جرى في اليومين الماضيين بـ«الإنجاز العسكري»، سواء بالاستناد إلى مستوى التقدّم والمناطق التي أمكن السيطرة عليها، أو لجهة مقارنة حصيلة الخسائر في صفوف القوى المهاجمة والمجموعات المسلّحة. في مقابل ذلك، تكشف مصادر المعارضة المسلّحة أن الاشتباكات لا تزال تتركّز في الشمال الغربي لمنطقة القصير التي تشهد ضراوة في الاشتباكات منذ أوّل من أمس، نافية حصول أي تقدّم يُذكر للجيش السوري وقوات حزب الله على هذا المحور، باستثناء قصف جوي مركّز تشهده مواقعهم. وفي الوقت نفسه، تذكر المصادر نفسها أنّ هناك مجموعات تراجعت إلى منطقة البساتين التي تقع في الشمال الشرقي «حرصاً على حياة المدنيين المحاصرين في منازلهم وتجنّباً لغارات الطائرات السورية التي تستخدم قنابل فراغية».
في حمأة تلك المعركة، كلا الطرفين يتبنّى إنجازات مزعومة. تحكي مصادر الجيش السوري عن تقدّم نوعي على عدد من المحاور، فتردّ تنسيقيات المعارضة بمقاطع فيديو تزعم فيها أنّها صدّت هجوماً هنا وأحبطت تسللاً هناك. ليس هنا سوى نُتف روايات، لكن معظمها تجزم بأن «مسار المعارك يجري لمصلحة الجيش السوري، إلا أن تنظيف الجيوب يستلزم وقتاً»، هكذا يُنقل عن مصادر الجيش السوري. يُقابل ذلك «ارتفاع في معنويات المسلّحين المعارضين» على وقع المعلومات المتداولة عن «ارتفاع الخسائر في صفوف عناصر حزب الله». ويعزز من هذا الموقف «الثبات على بعض المحاور نتيجة وقوع المقاتلين بين خياري الموت أو الاستسلام الذي يعني موتاً لاحقاً»، بحسب ما تذكر مصادر المعارضة المسلّحة في القصير لـ«الأخبار»، إذ ينفي هؤلاء كل ما يتردد عن «توفير قوات النظام ممرات آمنة لانسحابنا، سواء كنّا مسلّحين أو مدنيين». وبالتالي، ذلك يعني «استماتة في الدفاع أمام القوات المهاجمة» التي لم تترك أمامهم سبيلاً آخر. إضافة إلى ذلك، علمت «الأخبار» أنّ المسلحين عمدوا إلى تفخيخ عدد من السيارات والمنازل وزرع عبوات ناسفة، ونصبوا كمائن قاتلة قبل أن ينسحبوا من النقاط التي كانوا يتحصّنون فيها، لضمان إحداث أكبر قدر من الخسائر في صفوف القوى المهاجمة، وساعدتهم في ذلك الأنفاق التي كانوا قد حفروها منذ تحصّنهم في المنطقة، إذ سهّلت حركة انتقالهم بين الجبهات. وفي هذا السياق، كشفت مصادر مطّلعة أن المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي جُمعت عن هذه الأنفاق سمحت باستهداف معظمها وقطعها.
في موازاة ذلك، تنقل مصادر عسكرية لـ«الأخبار» أن ما يتردد عن «استيعاب المسلّحين للضربة العسكرية ضحكٌ على اللحى»، متحدّثة عن «هجوم كاسح لم يستفق المسلّحون من صدمته بعد». وتشير المصادر المذكورة إلى أن «الخدعة تمثّلت في الحشد عسكرياً من جهة والمباغتة من جهة أخرى»، لافتة إلى أنّ «ضراوة الهجوم على القصير تركّزت من الجهتين الجنوبية والغربية». أما ما يرويه المسلّحون عن سدّ منافذ القصير في وجههم، فتنفيه المصادر نفسها، مشيرة إلى أنّ «ألف باء الخطط العسكرية تفرض ترك مخرج للخصم للتراجع كي لا يستشرس ضدّك». وتلفت إلى «وجود مسارب إخلاء يوصل أحدها إلى نقطة قريبة من بلدة الغسّانية». وفي الوقت نفسه، تتحدث مصادر سورية مطلعة عن «حيرة وقع فيها الجيش السوري الذي تردد في إخلاء عدة نقاط شرقاً كانت ستُترك كمخرج لانسحاب المسلّحين، لكن خشية وصول المدد العسكري حالت دون تركها».