«ناتو» اقتصادي: «الكاوبوي» يبقى الأقوى

«ناتو» اقتصادي جديد ... «الكاوبوي» يبقى الأقوى

  • 0
  • ض
  • ض

كثر حول العالم يحلمون باليوم الذي تتقهقر فيه الولايات المتحدة. لكن كل المعطيات تشير الى أن أحلامهم ستطول الى أبعد مما يتوقعون. يحلو للأميركيين إظهار نوع من الانفصام الدائم، وهذه «الشيزوفرينيا» المصطنعة هي أحد عوامل قوتهم وهيمنتهم النفسية على الخصوم والحلفاء. القوة الاميركية لا غبار عليها، لكن «رعاة البقر» يتلهّون باظهار الضعف المبالغ به في كثير من الأحيان، والخوف الوجودي من تنامي قوة بعض الطامحين الى الهيمنة العالمية. السياسة الاميركية اشبه بفيلم ملاكمة: يتلقى البطل بضع لكمات وصفعات قبل ان ينتفض ويقضي على المنافس بالضربة القاضية. قد يستفيق «الدب» الروسي من سباته العميق، وتنطلق ألسنة اللهب من فم «التنين» الصيني، لكن «النسر» مستمر في التحليق ويوسع نفوذه... اقتصادياً

في عالم اليوم، الكلمة العليا للاقتصاد. الطائرات الحربية والصواريخ الباليستية والنووية مشوّقة ومنشّطة للأدرينالين، لكن السلاح الاقتصادي أشد فتكاً وإن كان أكثر نعومة. رغم كل جبروت الاتحاد السوفياتي السابق، لم تحتج الولايات المتحدة الى اطلاق رصاصة واحدة على عدوها الشيوعي. طبعاً الردع النووي بين الطرفين حال دون اقتتالهما المباشر، لكن الأميركيين كانوا مدركين جيداً، رغم خوفهم المبالغ فيه، أن هزيمة السوفيات ستكون اقتصادية وثقافية وتكنولوجية... وهكذا كان. الاندفاعة الروسية في الشرق الأوسط واستقدام الـ S-400، وقبلها تثبيت الروس لخطوط حمر في كل من اوكرانيا وجورجيا، اضافة الى تكتل دول «البريكس»، كلها دفعت كثيرين الى حفر قبر الأحادية الاميركية مبكراً. لكن بلاد العم سام، ادراكاً منها لهذه الوقائع، كانت قد بدأت قبل سنوات التحضير لتكبيل خصومها اقتصادياً، وضخ الدم في هيمنتها العالمية قبل أن يصيبها الوهن، وعينها على الصين.
ثلاث اتفاقيات... وهيمنة واحدة
شهد العالم قبل شهرين توقيع إحدى أبرز الاتفاقيات التجارية المتعددة الأطراف، وهي اتفاقية التجارة الحرة في منطقة المحيط الهادئ (TTP) التي تضم 12 من البلدان المطلة على هذا المحيط، من ضمنها الولايات المتحدة. ولا تزال المفاوضات جارية للبت في اتفاقيتين أخريين لا تقلان أهمية، هما الشراكة التجارية الاستثمارية عبر الأطلسي (TTIP) واتفاقية تجارة الخدمات (TISA).

في حال اقرارها ستكون اتفاقية TTIP أكبر اتفاقية دولية منذ أكثر من ربع قرن
لاتفاقية التجارة الحرة في منطقة المحيط الهادئ انعكاسات هائلة على الاقتصاد العالمي ككل. فالدول الموقعة عليها تضم نحو 800 مليون نسمة، وتشكل نحو %60 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و50% من التجارة الدولية و40% من الاقتصاد العالمي. وواشنطن ستكون المستفيد الأكبر منها، إذ أنها ستتخلص من أكثر من 18 ألف نوع من الضرائب كانت تفرضها الدول الأخرى على منتجاتها. وبالنسبة الى الـ TTIP، في حال اقرارها بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الـ28، فستكون الاتفاقية التجارية الأكبر دولياً منذ أكثر من ربع قرن تقريباً. وقد بدأت المحادثات الخاصة بهذه الاتفاقية في حزيران 2013، وهي تهدف الى إزالة التعريفات الجمركية بين الطرفين وتوحيد الأطر القانونية الناظمة للتجارة، ويُتوقع ــــ بحسب داعميها ــــ أن ترفد اقتصاد الاتحاد الأوروبي بـ119 مليار يورو سنوياً، وأن تعود على الولايات المتحدة بـ 95 مليار يورو. أما الـ TISA فتشمل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي الـ 28 و23 دولة أخرى، وهي تهدف الى فتح الاسواق وتحسين القواعد في مجالات التراخيص، الخدمات المالية، الاتصالات، التجارة الالكترونية، النقل البحري، والمهنيين الذين يتنقلون مؤقتاً الى الخارج لتوفير الخدمات. وتشكّل الدول المعنية بهذه الاتفاقية 70% من تجارة الخدمات العالمية.
أهداف جيوسياسية مغلفة اقتصادياً
بعد الحرب العالمية الثانية، شكّل الاقتصاد الاميركي 50% من الاقتصاد العالمي. وكانت الولايات المتحدة، بحكم هذا الواقع، قادرة على فرض قواعدها وشروطها في ما يتعلق بالتجارة العالمية من دون مشقة، وكانت ولادة منظمة التجارة العالمية من رحم هذا الواقع. ولكن مع انضمام اقتصاديات كبرى الى المنظمة، وبخاصة دول الـ «بريكس»، بات فرض الأميركيين سلطتهم المطلقة أكثر صعوبة، وهو ما بدا جلياً في الجولة التاسعة المتعددة الاطراف حول المفاوضات التجارية التي عقدت في الدوحة عام 2001 ومنيت بفشل ذريع. دخول منافسين كبار الى الساحة، دفع بالولايات المتحدة الى البحث عن استراتيجيات جديدة لبسط هيمنتها الدولية. من هنا تُفهم الأسباب وراء الاتفاقيات الثلاث الكبرى. صحيح أنه لا يمكن تجاهل آثارها الاقتصادية الضخمة، إلا أنها تبقى وسيلة من وسائل الهيمنة الاميركية. واللافت في هذه الاتفاقيات أن اياً منها لا يضم أياً من دول الـ «بريكس»، وهي موجهة اساساً نحو الصين التي تشكل الخطر الأكبر على النفوذ الاميركي المطلق. يسعى الأميركيون، من خلال هذه الاتفاقيات، الى ضرب عصافير عدة دفعة واحدة: جذب دول اميركا اللاتينية بعيداً عن البرازيل، ودول جنوب شرق آسيا بعيداً عن الصين، ودول اوروبا الغربية والاتحاد الاوروبي بعيداً عن القالب «الاوراسي» ككل. وتصريح باراك اوباما اثر التوقيع الـ TTP كفيل بتبيان المطلوب من دون اي لبس. فهو أعلنها صريحة وبالفم الملآن: «عندما يعيش ما يزيد على 95 في المئة من مستهلكينا المحتملين خارج حدودنا، لا يمكن أن نجعل الصين تكتب قواعد الاقتصاد العالمي». فاما تنصاع الصين، أو تقاتل منفردة لفرض شروطها الاقتصادية في منطقة تخضع واقعياً وجغرافياً وتاريخياً في قلب دائرة نفوذها التقليدي. وإذا كان الـ TTP اداة فعالة لتطويق العملاق الآسيوي اقتصادياً، فإن الـ TTIP التي وصفتها هيلاري كلينتون بـ «ناتو اقتصادي»، تشمل «العالم الغربي» ككل، من ضمن المساعي الأميركية لتمتين هذا المحور عالمياً في ضوء صعود قوة أخرى، وخاصة آسيوية. الاتحاد الاوروبي يدرك مدى حاجته للولايات المتحدة امنياً واقتصادياً، لكن الولايات المتحدة، من دون الاوروبيين حلفائها التقليديين، ستكون اضعف في لعبة المحاور المتصارعة. وهي، وان كانت في نظر الكثيرين المستفيد الأكبر من الـ TTIP، إلا انها بربطها الاوروبيين اكثر بها اقتصادياً تحصّن نفسها في شكل أكبر. فالاميركيون يدركون جيداً ان اوروبا ضعيفة خطر كبير عليهم خاصة في ظل المطامع الصينية المتزايدة والاستثمارات الصينية الضخمة في القارة العجوز، تضاف اليها الصحوة الروسية.
الكلمة الفصل للشركات الكبرى
السرية المحيطة بالاتفاقيات لا سابق لها، بخاصة انها في النهاية «اتفاقيات تجارية». فبحسب تسريبات «ويكيليكس»، اذا اراد اعضاء الاتحاد البرلمان الاوروبي الاطلاع على مضمون الـ TTIP يفترض بهم ان يطلبوا موعداً من السفارة الاميركية. المواعيد متاحة ليومين فقط اسبوعياً، ويسمح لنائبين في كل مرة بالدخول ولمدة ساعتين. يؤخذ هؤلاء الى قاعة محصنة ويخضعون لرقابة دائمة من قبل حارسي أمن من السفارة، وعليهم قبل دخول القاعة تسليم هواتفهم واي جهاز الكتروني يحملونه لمنعهم من تصوير أو نسخ اي مستند. صحيفة «اندبندنت» البريطانية، من جهتها، تنقل الوقائع عينها. ولكن الفرق، وفقاً للصحيفة، أن القاعة المحمية تقع في المفوضية الاوروبية في بروكسل. والأمر عينه، بحسب «إندبندنت»، ينطبق على الـ TTP حيث توجد قاعة محصنة في مجلس النواب الاميركي يسمح فقط بدخول اعضاء مجلس الشيوخ إليها من دون اي مساعدين أو هواتف، كما يمنعون حتى من تدوين اي ملاحظة.
بحسب «ويكيليكس» يمنع النواب الاوروبيون من الاطلاع على TTIP من دون رقابة أميركية!
ولكن، على المقلب الآخر، تتمتّع الشركات العالمية الكبرى وكبار مديريها بتسهيلات أفضل، إذ يسمح لهم بالاطلاع على ما يريدون، لا بل انهم لاعبون محوريون في المفاوضات، ولهم تأثير كبير على مجرياتها. الجزء الأكثر اثارة للمخاوف يتعلق بحماية المستثمرين. فعلى رغم ضرورة حماية هؤلاء، ومع أن دولاً كثيرة معنية بالاتفاقيات تتمتع بأنظمة قضائية متطورة ونزيهة ومشهود لها بالشفافية، إلا ان «المقصد الحقيقي من هذه الشروط الاميركية لحماية المستثمرين يتلخص في عرقلة القيود التنظيمية الصحية والبيئية والمتعلقة بالسلامة، بل حتى التنظيمات المالية بقصد حماية اقتصاد أميركا ومواطنيها». وبالتالي، يكون في امكان الشركات مقاضاة الدول والحكومات طلباً للتعويض بسبب أي أمر تعتبره مضراً بمصالحها واستثماراتها، ولو كانت مظاهرات او قوانين... إذ أن هذه الاتفاقيات تدعو الى «تحكيم خاص وغير شفاف وباهظ التكاليف»، بحسب جوزف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد. ويوضح: «رغم أن الشركات قد تقيم دعاوى قضائية، إلا أن غيرها قد لا يتمكن من ذلك. فإذا حدث انتهاك للالتزامات بشأن معايير العمل والبيئة على سبيل المثال، لن يجد المواطنون والنقابات ومنظمات المجتمع المدني أي ملتجأ». وطبعاً لا مجال للنقاش في أن الشركات الاميركية ستكون المستفيد الأكبر من هذه الاجراءات. هذا القالب الاقتصادي الجديد الذي تهندسه الولايات المتحدة يلفّه الكثير من الغموض ويفتقر الى الشفافية. النواب الاوروبيون، وحتى اعضاء مجلس الشيوخ الاميركي، مكبلون الى اقصى الحدود. أما المواطنون فهم الغائب الاكبر. ولكن من يبالي باعتراض من هنا وامتعاض من هناك، وبحقوق انسان او معايير جودة، حين تكون هيمنة الولايات المتحدة على المحك؟

  • الاتفاقيات الثلاث من وسائل الهيمنة الاميركية على العالم

    الاتفاقيات الثلاث من وسائل الهيمنة الاميركية على العالم

0 تعليق

التعليقات