في 29 كانون الثاني الفائت، اجتمع مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في دورة استثنائية للنظر في التعديلات المقترحة على القانون الأساسي لرابطة كاريتاس لبنان، والأهم ملء المناصب الشاغرة في إدارة الرابطة، بعد استقالة كل من نائب الرئيس والمرشد العام وانتهاء ولاية أمينَي المال والسر العامين. المنصب الوحيد الذي بقي مشغولاً هو الرئاسة. في مرحلة سابقة، تقدّم أمينا المال والسر العامان باستقالة جماعية مع نائب الرئيس، لكنها لم تُقبل. كل ذلك موثّق في كتب الاستقالات والتقارير المرفوعة إلى أعلى المراجع في المؤسسة الكنسية، وهي تكشف جوانب مهمّة مما يحصل في هذه المؤسسة.
في الخلاصة، يتبيّن من الوثائق، التي حصلت عليها "الأخبار"، أن أكثر من مليوني ونصف مليون دولار سُحبت من قبل لجنة مركز الأجانب السابقة في كاريتاس خلال شهر و5 أيام من دون أي مسوّغ قانوني، إذ تأخر رئيس كاريتاس السابق الأب سيمون فضول "قصداً" في إبلاغ المصارف عن اللجنة الجديدة المخوّلة التوقيع على الشيكات، وفق ما ورد في كتاب استقالة نائب الرئيس هيكل البدوي. كذلك أثبتت التقارير عدم صحة الإنفاق الذي حصل آنذاك، خصوصاً أن مبالغ كبيرة "صُرفت" لشركات "وهمية"، إذ ظهر أن هناك مبالغ أُنفقت مع شركات قبل أن تكون مسجّلة في السجل التجاري.

مؤسسات الطائفة بديل للدولة

استُخدمت مبالغ ضخمة لشراء مواد من شركات «وهمية»
تُعَدّ رابطة كاريتاس لبنان، التي تأسست عام 1976، واحدة من أكبر المؤسسات الطائفية الموجودة في لبنان، وهي من المؤسسات التابعة للطائفة الكاثوليكية وتتولّى القيام بأعمال خيرية ومساعدة رعايا الطوائف المسيحية خصوصاً، وغير المسيحية عموماً. يتركز عملها مع المجتمعات المهمشة في المناطق الريفية، المزارعين، الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، العمال الأجانب واللاجئين والمسنين والشباب والمرضى والفقراء، والناس في حالات الطوارئ. وتعمل كاريتاس لبنان بالتعاون مع الوزارات الحكومية والمنظمات غير الحكومية. كذلك لديها شراكات على المستوى الدولي وضمن شبكة كاريتاس الدولية مع الاتحاد الأوروبي ووكالات الأمم المتحدة وUSAID.
تمثّل هذه المؤسسة إحدى وسائط العلاقة "الزبائنية" بين الكنيسة ورعاياها في ظل النظام الطائفي الذي يُجيّر مهمات الدولة وأدوارها (مثل الحدّ من الفقر والبطالة، دعم المستشفيات الحكومية، تعزيز التعليم الرسمي…) إلى المؤسسات الطائفية لإحكام قبضتها على "المواطنين"، فيصبح التعامل مع قضايا الفقراء والفئات المهمشة (التي تهتم بها كاريتاس) ينطلق من جانب ديني و"أخلاقي"، يقوم على مساعدة هؤلاء باعتبار الفقر ظاهرة طبيعية. كذلك تقوم المؤسسات الطائفية بخلق هيئات صحية وتعليمية تابعة لها كبديل للهيئات الرسمية. لا يكتفي هذا النظام بالتخلي عن دور الدولة لمصلحة مؤسسات الطوائف، بل يقدّم لها امتيازات كثيرة. في مقال بعنوان "الطائفية المالية والضريبية في لبنان" لجورج عازار الحداد (المفكرة القانونية، العدد 31) يتحدث عن "كلفة الطائفية السياسية والإدارية على المالية العامّة، والناتجة من الامتيازات المالية الممنوحة للطوائف، وبعض الأشخاص المعنويين التابعين لها". يضيف الحداد أنه "على الرغم من كل المشاكل المالية (العجز المالي، الدين العام...)، تمنح السلطات اللبنانية هؤلاء إعفاءات ضريبية شبه كاملة. وهذه الفئة ليست فقط أكثر الفئات استفادة من استثناءات قوانين الضرائب، بل يُرصد لها أيضاً مبالغ من النفقات العامة والمساعدات في الموازنات المتتالية منذ عقود". فقد خصصت الدولة لكاريتاس تحديداً في مشروع الموازنة لعام 2015، بالحد الأدنى، 600 مليون ليرة: 400 مليون ليرة من وزارة الشؤون الاجتماعية و200 مليون ليرة من رئاسة مجلس الوزراء. أمّا موازنة كاريتاس، فتعدّ من أضخم موازنات المؤسسات الخيرية ـ الطائفية، إذ بلغت قيمة الموازنة المقرّة لعام 2015-2016، 53 ملياراً و219 مليون ليرة، أي نحو 35 مليون دولار، علماً أن نفقات كاريتاس لعام 2014-2015 بلغت 48 ملياراً و730 مليون ليرة لبنانية.
إذاً، تُعَدّ المؤسسات الطائفية من صلب بنية هذا النظام القائم على الزبائنية والمحاصصة. لذلك، إن الحديث عن فساد في المؤسسات الطائفية هو نتيجة طبيعية لنظام سياسي ـ طائفي قائم على علاقات غير سليمة بين المواطنين والدولة والمؤسسات.
ما يحصل في كاريتاس ليس سوى استنساخ لطريقة عمل الدولة: ملايين الدولارات المخصصة "للفقراء/ المواطنين" هُدرت، فُتح تحقيق بالقضية نتجت منه إقالة كاشفي الفساد وتهديد الراغبين في المحاسبة باتخاذ تدابير بحقهم، المشتبه فيهم "محميّون" من قبل سلطات عليا، وقد أُبعدوا عن المؤسسة من دون كشف الأسباب أو نُقلوا إلى مواقع أخرى. يُغلق الملف من دون أي توضيحات، وتُصبح أي محاولة لمعرفة الحقيقة "مسّاً بالانتظام العام" واستهدافاً لسمعة المؤسسة.

استقالات جماعية… والرئيس صامد

يتألف مكتب كاريتاس من ستة أعضاء، خمسة منهم يشكلون الهيئة الفعلية هم الرئيس، المرشد العام، نائب الرئيس، أمين السّر وأمين المال، بالإضافة إلى المشرف على أعمال الرابطة. في 30 آذار 2015 تقدّم أمين المال العام وأمين السر العام ونائب رئيس الرابطة باستقالة جماعية وُجهت إلى البطريرك بشارة الراعي بعد أن طُلب منهم، بتقرير أصدرته لجنة ثلاثية أسقفية عُيِّنَت لدراسة أوضاع كاريتاس والمراكز التابعة لها، أن يتعاونوا بنحو كلي وصريح "مع رئيس الرابطة وإدارة المؤسسة بروح المحبة والشفافية، وإن لم يتوصلوا إلى إيجاد أسلوب واضح للتعاون في غضون شهرين، يُصَر إلى اتخاذ تدبير آخر". في اليوم نفسه تقدّم المرشد العام في كاريتاس باستقالة فردية (لم تُقبل) للسبب نفسه، إذ تبلّغ رسالة من الراعي بواسطة رئيس كاريتاس بول كرم يطلب منه "التزام دوره الإرشادي فقط".
ردّ الأعضاء الثلاثة في الاستقالة الجماعية على "عدم التعاون مع رئيس الرابطة" بأن "في المرات القليلة التي لم يكن فيها الانسجام تاماً، كان السبب في تخطي الأب الرئيس الصلاحيات المعطاة له والتفرّد باتخاذ القرارات التي كانت مخالفة لنصوص الأنظمة، وكذلك لوجود أوضاع غير سليمة كانت سائدة في مركز الأجانب، على ما جاء في كل التقارير الصادرة عن المدقّق الداخلي وأمين المال العام واللجنة القانونية في الرابطة، التي تؤكد هذا الواقع". يضيف الأعضاء أنّ "مركز الأجانب كان سبباً في الاختلاف حول الأسس الواجب اعتمادها لمعالجة أوضاعه، نظراً إلى المخالفات الجسيمة التي كانت حاصلة فيه والموثقة في تقارير عديدة قُدّمت إلى اللجنة الأسقفية".
في استقالة المرشد العام ذُكر أيضاً "الهدر الحاصل لأموال الفقراء"، إذ تحدث عن "الكثير من الشواذات والمخالفات والممارسات المشينة التي تدين عمل مسؤولين وموظفين في هذا المركز (مركز الأجانب)، مستنكراً أن يُطلب من الأشخاص الأمناء إنهاء خدماتهم "فيما المرتكبون ينجون من المحاسبة والمساءلة وينالون كتب تقدير وتكريم وشكر وكأنهم غير مسؤولين عن كل الهدر الحاصل".

مركز الأجانب: هدر 2.6 مليون دولار

آنذاك لم تُقبل استقالة المكتب واستمرت "المخالفات" نفسها التي ذُكرت سابقاً، فكانت استقالات ثانية مفصّلة في شهر كانون الأول 2015. تقدّم نائب الرئيس هيكل البدوي باستقالته مجدداً، شارحاً بالتفصيل المخالفات الحاصلة في الرابطة. يروي البدوي أنّ تجربته في كاريتاس كشفت "هدراً ناتجاً ممّا هو أبعد من سوء إدارة".
لم يُرد البدوي أن يُطلق أحكاماً عامة. فصّل "حالتين من حالات كثيرة" لما يجري في كاريتاس، هي مركز HOPE (انظر الإطار) ومركز الأجانب الذي أُنشئ عام 1994 بعد تدفق عدد كبير من اللاجئين السودانيين والعراقيين إلى لبنان لتقديم المساعدة لهم، وتوسع عمل هذا المركز مع تدفق اللاجئين السوريين. في قضية مركز الأجانب، تجاوز "الهدر" المليوني دولار، حيث "خالف الرئيس السابق لكاريتاس (الأب سيمون فضول) الحد الأدنى من الأصول القانونية والمالية، وسمح بمفرده لرئيس لجنة المركز آنذاك مع المديرة السابقة (نجلا شهدا) بمتابعة توقيع الشيكات الخاصة بالمركز أمام المصارف رغم تغيير اللجنة وإبدالها بلجنة جديدة. تأخر الرئيس السابق عن إبلاغ المصارف قرار المكتب الذي قضى بتعيين اللجنة الجديدة المخوّلة الإدارة المالية والتوقيع على الشيكات". يصف نائب الرئيس في كتاب استقالته هذا التأخير بأنه "مقصود"، مشيراً إلى أنه "استمر شهراً وخمسة أيام. نتج منه صرف مبالغ تتجاوز مليوني دولار دون غطاء قانوني، ولا سيما أن الإنفاق الذي حصل في هذه الفترة بالذات غير سليم إطلاقاً، كما أثبتته التقارير المالية الموثقة". يشير البدوي في استقالته إلى عدد كبير من التقارير، التي تُثبت حصول الهدر في المركز وإلى تعامل المسؤولين فيه مع شركات وهمية، وهي عبارة عن:
- تقرير جهاز التدقيق الداخلي في كاريتاس عن الفترة الممتدة من 1/7/2013 حتى 31/12/2013.
- ثلاثة تقارير لرئيس المركز السابق المرفوعة إلى مكتب كاريتاس آخرها في 19/5/2014.
- كتاب أمين المال العام في 16/10/2014 المرفوع إلى المطران المشرف ورئيس وأعضاء المكتب والمجلس.
- تقرير اللجنة القانونية في كاريتاس المؤرخ في 5/1/2015.

حسابات الشركات الوهمية

يلخص كتاب أمين المال العام إيلي رزق الله (المذكور في كتاب استقالة البدوي) أهم ما جاء في تقرير جهاز التدقيق الداخلي عن الفترة الممتدة من 1/7/2013 حتى 31/12/2013، والذي يُظهر كيفية هدر ملايين الدولارات في مركز الأجانب، ويفصّل "الشركات الوهمية" التي جرى التعاون معها لصرفها. فماذا ورد في كتاب أمين المال العام؟
أكثر من مليونين ونصف مليون دولار سُحبت من دون أي مسوّغ قانوني

في 24 أيلول 2013 وقّع فضول ورزق الله تفويضاً بالتوقيع يعطي الحق للمفوضين (لجنة إدارة مركز الأجانب المعينة حديثا) "بتحريك الحسابات المصرفية ابتداءً من 1 تشرين الأول 2013، غير أن هذا الكتاب أبلغ للمصارف المعنية بتاريخ 5 تشرين الثاني 2013، والمبالغ التي سحبت خلال هذه الفترة بلغت 1,397,235,058 ليرة لبنانية، إضافة إلى 1,711,302 دولار"، أي إن اللجنة السابقة أنفقت في فترة تفويض اللجنة الجديدة، ما يعادل أكثر من مليونين ونصف مليون دولار (تحديداً 2,642,792 دولاراً) خلال شهر وخمسة أيام. يُكمل الكتاب أنّ "المكتب (اقترح أو وافق) على قبول جميع الشيكات الموقعة من قبل السيد كمال السيوفي (رئيس لجنة مركز الأجانب السابق) عوضاً عن السيد توفيق عريس (رئيس مركز الأجانب الجديد) خلال الفترة المشار اليها، وقبولها مع إبداء التحفظات على آلية وإدارة صرف بعض العمليات المبينة لاحقاً".
استُخدمت مبالغ ضخمة لشراء مواد من شركات اتهمها نائب الرئيس بأنها "شركات وهمية"، إذ تبيّن أنها لم تكن مسجلة في السجل التجاري في أثناء حصول عمليات الشراء، كذلك إن هيئة استلام المواد لم تكن مؤلفة آنذاك، وبالتالي لم يجرِ استلام المشتريات وفقاً للأنظمة المعمول بها في الرابطة. فمثلاً بلغ إجمالي الفواتير المدفوعة لشركة machine form (يديرها مارك بيار عقيل) نحو مليون دولار توزّعت على أعوام 2011، 2012 و2013، علماً بأنّ الشركة سُجلت في السجل التجاري عام 2014. كذلك بلغ مجموع المبالغ المدفوعة لشركة GSS FOR TRADING (تديرها غرازييلا كرم نعمان) نحو 896 ألف دولار، ومنها فواتير صُرفت قبل تسجيل الشركة في السجل التجاري.
في رسالة أرسلها إلى رئيس كاريتاس في 10 شباط الفائت، تحفظ أمين المال العام، خلال جلسة التسلم والتسليم لأعضاء المكتب الجديد، على أمور عدّة تتعلق بمركز الأجانب، منها ميزانيتا عامي 2013-2014 و 2014-2015، إضافة الى تحفظه عن محاسبة مركز الأجانب من أيلول 2015 حتى 28 كانون الثاني 2016.
يؤكد البدوي في استقالته أنّ جميع هذه التقارير رُفعت إلى السلطات الكنسية التي ارتأت تشكيل لجنة أسقفية لدراسة أوضاع كاريتاس والمراكز التابعة لها في مرسوم صدر بتاريخ 12/11/2014 عن البطريرك بشارة الراعي. وضعت اللجنة تقريراً وأحالته على مجلس الرئاسة الذي أصدر بنتيجته كتاباً بتاريخ 26/3/2015 جاء "غريباً" بعض الشيء. فقد اعترف الكتاب بهشاشة الوضع في كاريتاس من دون أن يحدد المسؤوليات، كذلك طلب مجلس الرئاسة إنهاء عمل لجنة مركز الأجانب "الذي لولا رئيسها الجديد (توفيق عريس) لما تبيّن حجم الهدر في المركز"، وفي الوقت نفسه وجّه مجلس الرئاسة شكراً وتقديراً لمديرة ورئيس اللجنة السابقين، طالباً منهما الاستقالة من دون تبيان الأسباب.
فعلياً ما الذي حصل بعد هذه التقارير؟ استقالت مديرة مركز الأجانب نجلا شهدا، وعُيِّن رئيس كاريتاس السابق الأب سيمون فضول إكسرخوساً على إفريقيا للموارنة. لكن هل حوسب المسؤولون؟ هل استُرجعت الأموال؟ برأي الأب بول كرم لا علاقة للصحافة بهذا الأمر، وخلاصة المقابلة معه أن "هناك تدبيراً اتخذ، لكن هذا التدبير لا يعني أن هناك أخطاء حصلت"!