في البدء كانت درعا. حادثة الأطفال الشهيرة التي لم يلتقطها النظام. واليوم تسليم عالمي بالعجز عن تنحية بشار الأسد. وما بينهما من دماء ودمار وألسنة لهب امتد إلى ما وراء الحدود، إمّا على شكل اضطرابات أو على شكل أزمات انسانية، عنوانها اللاجئون. هي قصة شعب سعى إلى التخلص من معاناة، فوجد نفسه وسط كارثة. وحكاية نظام أراد التمسك بخياراته السياسية، فلقيَ نفسه في خضمّ «حرب كونية» تريد اقتلاعه من جذوره. في النهاية، بات واضحاً أنّ في الميزان ما يكفي لإشعال المنطقة والعالم. وكأنّها معركة استعادة فلسطين تخاض في أحياء دمشق. هيَ الجولة الأخيرة التي يتحدّد في ضوء نتائجها مستقبل المنطقة. ينبثق من ثناياها خاسر ورابح.
كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري قبل يومين ليس تفصيلاً عابراً. إقرار أميركي بالعجز عن تنحية بشار الأسد. مشهد لم يكن في دائرة الخيال عند اندلاع الأزمة، يوم اعتقد البعض أن نسائم «الربيع العربي» تداعب سوريا. كان الطلب، قبل الحراك السوري، تغيير سلوك النظام. وعند اشتعال الشارع تحوّل إلى التخلّص من النظام من جذوره، قبل أن يتحوّل إلى قبول بالهيكل شرط رحيل قائده. نتيجة لم تأتِ من فراغ. هي ثمرة تماسك والتفاف حول خيارات سياسية، وسقوط رهانات على انشقاق مؤسسة عسكرية عُرفت بانتمائها العربي، وجهاز دبلوماسي اشتهر بالتزامه القضايا القومية، التي تخلّت عنها جامعة العروبة أخيراً، بتشريعها تسليح «شعب شقيق» وتشجيعه على الاقتتال الأهلي. أليسَت هي نفسها التي طردت دولة شقيقة قبل أشهر، كرمة لعيون أباطرة النفط والغاز، في سابقة لم تحصل منذ توقيع مصر على معاهدة كامب ديفيد. وهي أيضاً نتاج توازن رعب فرضته إيران وحلفاؤها ومن خلفها روسيا والصين، التي أعلنتها منذ اللحظة الأولى: الأسد خط أحمر. سدّ دبلوماسي وعسكري لم تشهد واشنطن مثيلاً له، حتى في عزّ الاتحاد السوفياتي. اعتادت النزهات من الحرب على يوغوسلافيا إلى غزو العراق مروراً بالحرب على أفغانستان. واشنطن اليوم لحقت بموسكو، في ظل تباين أوروبي، بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا، عنوانه: ما العمل؟ الجواب جاء أميركياً: بيان جنيف أولاً وبالطبعة الروسية، أي الحوار مع الحكومة السورية تحت عباءة الأسد.
لا شك في أنّ غياب البديل أدى دوراً أساسياً في الوصول إلى هذه الخلاصة. معارضة سوريّة مشتّتة، يغلب عليها الطابع الإسلامي السلفي، الذي أربك الغرب وبثّ الرعب في صفوف أجهزته الأمنية، حتى المعتدلين منهم، من قوى تدعي العلمانية، عجزت عن التفاهم على برنامج موّحد، مرتين، الأولى عند تشكيل «المجلس الوطني السوري»، والثانية عند التحوّل إلى ما يعرف بـ«الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة الوطنية». بل لم تتمكن الفصائل التي تريد الحلول مكان النظام من الاتفاق على جهاز تنفيذي رغم الإغراء بتوليه مقعد سوريا في جامعة الدول العربية.
لعلّ لحظات الحقيقة قد أذنت. النظام استعاد مبادرته العسكرية في الداخل، بعد أسابيع من الانكار في بداية الحراك الشعبي، وأشهر من التخبّط، والمحاولات السياسية، ومثيلها من التجهيز والتدريب. فرض خيار التفاوض بعدما تهيأ لكثيرين أنّه دخل في مرحلة الانهيار. بعد سنتين، من مطالبة آلاف المتظاهرين السلميين بحقوقهم المشروعة وتبيان وجود فريق عريض في الداخل يريد تغيير أركان الحكم بالكامل، تبيّن منذ الأسابيع الأولى أنّ القرار في الخارج. نفّذت مجموعة من الاصلاحات، يتقدمها دستور جديد وقانون أحزاب وقانون انتخابات وعفو عام لأكثر من ست مرات. استفتي على الدستور وجرت عملية الاقتراع، وبقي المطلب واحداً، رحيل بشار الأسد. كانت «غرفة عمليات اسطنبول» سيّدة القرار، على معظم فصائل المعارضة، يتقدمها ما بات يعرف بـ«الجيش الحرّ» الذي أعلن عن تشكيله في شهر تموز عام 2011. لم تنجح سياسة اليد الممدودة التي تبناها الأسد في البدايات، عبر استقبال مئات الوفود الشعبية لاستبيان مطالبها. ثقة بحبّ الناس له لم تؤت أكلها، ولا تحييده الأجهزة الأمنية. سبق السيف العذل. الأموال والأسلحة والمقاتلون الأجانب والعرب كانوا يتدفقون من كلّ حدب وصوب.
لحظات حقيقة ليس على المستوى السوري فحسب، وإنما على مستوى المنطقة. النيران التي أحرقت مساجد دمشق وحلب، باتت تتهدّد العراق بحرب مذهبية. حتى الأردن، بوضعه الاقتصادي الصعب، ينازع بين سياسة النأي بالنفس والقواعد العسكرية التي فرضها الغرب على أراضيه لدعم معارضي النظام السوري. وإن كانت عمّان تجنح اليوم نحو إعادة ترتيب الوضع مع موسكو، في ظلّ ضغوط عربية لتقف في صف «المعارضين رسمياً». مآسي الشعب السوري حملها معه إلى لبنان، حيث الأمن بالتراضي يترنّح، فيما تبدو تركيا مرتبكة، وكأنها معلّقة بين الأرض والسماء. إيران تستعد لـ«معركة الداخل» التي تحمل عنوان انتخابات الرئاسة المقرّرة في شهر حزيران المقبل. أما العين فتبقى على روسيا التي ترى بدفاعها عن الشام حماية لأسوار موسكو. المعركة في سوريا ليست فقط لاسقاط النظام ومجيء بديل عنه. سقوط سوريا يسقط فريقاً بأكمله من بيروت إلى بكين مروراً ببغداد وطهران وموسكو. سقوط عاصمة الأمويين من عدمه يعني تغييراً للمشهد الشرق أوسطي بكامله. هي معركة وجود بالنسبة لفرقين لن يقبلا التراجع... وما الضحية إلّا سوريا وشعبها.