زياد بارودهي قضبان حديدية وجدران غليظة تفصل بين عالمنا وعالمهم... نحن، نزلاء السجن الكبير، حيث أحكامنا المسبقة وأفكارنا الموروثة محتجزة... وهم، نزلاء السجن الأصغر حجماً والأعظم ظلماً، حيث حريتهم محتجزة بحكم قضائي حيناً، وبمجرّد مذكرة توقيف أحياناً... وحدها نافذة السجن تأتيهم بالضوء، وتطل بهم على الأمل. أما أبواب التحديث والتطوير والإصلاح، فموصدة، والحق علينا... نحن!

الحق علينا لأننا اعتقدنا بأن مجرّد بناء مدرسة يقفل سجناً. فاكتفينا بمدارس لا مدرسّين فيها ولا طلاب. صدق ميشال فوكو عندما تساءل: «أين الغربة إذا كان السجن يشبه المعامل والمدارس والثكن والمستشفيات، وكلّها تشبه السجون؟». أهملنا البناء في ظل تزايد عدد السكان وتعاظم معدّل الجريمة. وتوقفت، عند ستينيات القرن الماضي، عقارب الزمن. شيّدت الدولة السجن المركزي في رومية واستراحت. صُمّم السجن هندسياً ليستوعب 1050 سجيناً، وإذا به يستوعب اليوم، فعلياً، ما يزيد على 4000 بين محكومين وموقوفين! يضاف إليهم آخرون موزعون على سجون ونظارات على مساحة الجمهورية.
والحق علينا أيضاً لأننا اعتقدنا أن السجن عالم آخر، لا تفاعل بينه وبين «عالمنا». هنا، لم نهمل البناء، بل شيّدنا جداراً يفصل بيننا وبين الإنسان ــــ السجين. هذا الذي عائلته بيننا تعاني، وهذا الذي، إذا قضى عقوبته، انضم إلينا، فلم يجد وظيفة ولا احتضاناً. لم نرد أن نراه. أما هو، فنافذة السجن بقيت مداه...
والحق علينا، خصوصاً، لأننا ملوك الارتجال! نلغي وزارة التصميم (حصراً للنفقات؟!) ونرتجل حلولاً ظرفية. تغيب السجون عن أولوياتنا لعقود، ثم نريد أن نعالجها بلمحة كاميرا بين حلقة شغب وأخرى. نقارب إشكالية السجون بالعين الأمنية حصراً، وتغيب النظرة الكلية الإنسانية، بدءاً بالسياسة العقابية للدولة وترجماتها التشريعية والقضائية، مروراً بإدارة السجن التي باتت علماً قائماً بذاته، وانتهاءً بالظروف المعيشية فيه.
نعم لنقل إدارة السجون إلى وزارة العدل، وقد انطلقت الخطة الخمسية وبتنا في منتصف الطريق. إلا أن هذا الإجراء لا يجوز أن يتحوّل إلى كرة نار ملتهبة ترمى من الداخلية إلى العدل، كما لا يجوز عزله عن سائر الإصلاحات. لذلك، أطلقت وزارة الداخلية والبلديات، اعتباراً من 2009، «مشروع تحسين الأوضاع المعيشية في السجون اللبنانية». أنجز المشروع تقريراً شاملاً يتضمّن، للمرة الأولى، مختلف المعطيات المرتبطة بالسجون، هندسةً وخرائط وواقع حال، وخصص التقرير لكل سجن ملفاً متكاملاً يتضمن خرائط وصوراً ومعلومات بيانية. بذلك، بات بإمكان الدولة أن تنتقل إلى المرحلة التالية على قواعد صلبة وتقارب التمويل والإدارة والأمن وحقوق الإنسان في سجون لبنان كلّها، مقاربة تطبيقية ذات فعالية.
«لكل سجن نافذته» (والتعبير لجيلبير غراتيان)... و«لكل سجين غاضب» (مسرحية زينة دكّاش) حقه في تلك النافذة، لا في تحطيمها شغباً ولا في هدم التحسينات. من حق السجين أن يخضع لمحاكمة عادلة، ومن حق المحكوم أن يقضي عقوبة واحدة هي حرمانه حريته، لا أن يعاقب أيضاً في ظروفه المعيشية. ليعاقب المجرم المرتكب، وإنما بما حكم به فقط، وليعاقَب المجتمع الذي لا يريد أن يرى خلف قضبان سجونه إنساناً.