هنا رومية. أذن القضاء لنا بالدخول، ليوم واحد، إلى المكان المخيف. هنا، تُفهم تماماً علّة دعوة السجناء إلى المسؤولين لزيارتهم. يصعب العيش هنا. لكن مع ذلك ثمة أحياء في هذا المكان!إنه سجن لبنان المركزي. أرض المستحيلات. كل شيء مخيف هنا باستثناء السجناء.

يخبرك أحدهم، ببرودة، أنه لم يُشاهد «الزفت» منذ أكثر من عشرين عاماً. لا تملك إلا أن تحدّق إلى وجهه ملياً. قل ما شئت عن جرمه، لكنه، وبجدارة، سيثبت لك أنه إنسان. في داخله إنسان وحبّة مسك. اسمه الياس. إن أطلق سراحك اليوم، نسأله، أتظن أنك قادر على العيش في الخارج؟ ماذا يحمل خيالك عن عالم ما خلف القضبان؟ لبنان عنده ما زال قبل «الطائف». تدور عيناه قبل أن يجيب: «ربما تغيّرت الدنيا... ولكن يكفي أن تكون حريتي معي». إذاً، لا يزال «بروكس» تواقاً إلى الحرية. هكذا يسميه زميله وحيد. يشبّهه بالسجين في فيلم «شاوشينك»، أحد أكثر الأفلام شهرة بين السجناء. في الواقع، الياس يشبه بروكس، حتى في الشكل. الأول يعمل الآن في مصنع الأشغال اليدوية، الفنية جداً، لخبرته في هذا العمل. الثاني، في الفيلم، كان مسؤولاً عن المكتبة، وعندما أنهى مدة عقوبته حاول قتل زميله، الذي يحبه كثيراً، أملاً بعدم الإفراج عنه. لقد أصبح «مستحبساً». هكذا يسمّون المصاب بهذه الحالة النفسية في رومية. في الفيلم، عجز بروكس عن أذية زميله، ليخرج بعدها من السجن بغير رغبة. وجد نفسه في عالم، على اتساعه، غير عالمه. السجن الكبير. أيام قليلة ويتسلّم أصدقاء عمره، في السجن، رسالة وداعه لهم. شنق ذاك العجوز نفسه. هذا في الفيلم، أما الياس، بقبعة الصوف التي على رأسه، لا يزال صامداً، داخل مبنى المحكومين في رومية... مع حكم مؤبد.
وحيد، الذي يقضي مؤبّده هو الآخر، مضى على وجوده خلف القضبان حوالى 20 عاماً. يعمل في المصنع، مع الياس، ويجيد فن رسم اللوحات. يحمل وحيد ثقافة سياسية. فما أن يشم رائحة صحافة، حتى يتمنى إيصال صوته إلى المسؤولين. المفاجأة في طلبه أنه، عكس كثير من السجناء، لم يطلب شيئاً لنفسه. يتمنى على المسؤولين «تجنيب لبنان ثمن خلافاتهم. عليهم أن يتّحدوا ليواجهوا المرحلة التي نمر فيها. إنها مرحلة مفصلية». يا للعجب، من قضى عقدين من الزمن في سجن مقفر، ونسيته الدنيا كلها، قلبه على لبنان. صاحب الهامة الطويلة، من لم يجد القانون إلا أمثاله ليطبّق عليهم، لا يطلب شيئاً لنفسه. إن كان ولا بد، بعد الإصرار، فـ«عدم التضييق على الأخوات الثلاثة اللواتي يزودننا بأدوات العمل». يزعجه أن ضابطاً لا يسهّل لهن عملهن الإنساني.
عبد الفتاح يراقب من بعيد. يقترب منا. لا يبدو واحداً من نزلاء السجن، كما أنه ليس كبيراً في السن. لكن لا تمرّ لحظات قبل أن تكتشف أنه من أقدم السجناء. الفرق أنه دخل السجن صغيراً، وقد أتلف من شبابه فوق عقدين من الزمن خلف القضبان. بات خبيراً في «عالم الهمس». هكذا يسمّي مبنى المحكومين. «سترى الياس ووحيد، إدريس وسيمون، نبيه وخالد... لن تجد هنا إلا الهمس. كلهم تصالحوا مع واقعهم. صاروا من هذا السجن كحجارة ذاك الجدار أمامك. أنا مثلهم أيضاً. ستجد في المباني المتبقية، وخاصة المبنى باء، جواً آخر». المحكوم بالإعدام، المستفيد من قانون عفو ما بعد الحرب الأهلية، صاحب المؤبد اليوم، لديه طلب وحيد. «نريد من دولتنا، على غرار كل الدول، أن تُحدد مدة العقوبة المؤبد. في مصر، مثلاً، هذه العقوبة 25 عاماً، أما هنا فهي حرفية... إلى الأبد».
أبطال وأرانب
عند مدخل مبنى المحكومين، المؤلف من ثلاث طبقات، تلفتك مصطلحات غير مألوفة خطّها السجناء على الجدران. أحدهم كتب: «السجن لي مرتبة والقيد لي خلخال، والمشنقة يا عاهرة مرجوحة الأبطال». إذاً، كان ينتظر الإعدام. هل أعدم؟ لا أحد يعرف هنا، لأنهم لا يعرفون الكاتب. عند المدخل تتجمّع أغراض السجناء، الآتية إليهم من ذويهم، بانتظار توزيعها عليهم. ثياب وحاجيات وطعام. من يأته طعام من خارج السجن قوي في السجن. من «يواجه» قوي أيضاً. زيارات الأهل والأصدقاء يسمونها «مواجهة». من يواجه لا يأكل من «الأروانة» (طعام السجن). هذا المصطلح، بالمناسبة، يطلقه السجناء على كل شيء لا يُنتفع به. ستسمع هنا عن «محامين آروانة» أيضاً. على الدرج في الطريق إلى الطبقة الأولى، تقرأ على الجدار عبارة: «أرنب إسطنبولي». تسأل «الشاويش» (سجين آمر) عن معناها فيبتسم. يقول: «الأرنب هو اللوطي. هنا لا نساء كما تعلم، وعندما يأتينا سجين من هذا النوع فهو الأرنب». يتبرّع سجين ضخم البنية، بصوت مرتفع، للإيضاح أكثر: «كان لدينا أرنب اسمه تيما... المسيطر عليه كان يؤجّره في الليلة مقابل كروزين دخان». ولماذا إسطنبولي؟ هي كلمة وحسب، يشرح.
في الطبقة الأولى حلّاق. سجين ذو مهنة. قصّ الشعر عنده مقابل علبتي سجائر. هذه هي العملة هنا. السجائر و«اليونت»، أو وحدات الهاتف. الثانية مستجدة، فعالم الخلوي غزا السجن، وبات في حوزة كل سجين، تقريباً، هاتف.

وتبدأ المفاجآت. ها هو ماهر المقداد هنا. شقيقه الشيخ حسن أيضاً. صوت أجش يضجّ في المكان. إنه حسن ضاهر المقداد. هذا الذي ظهر قبل أشهر على الشاشات، قائلاً: «أعدموا حسان إن أردتم، حسناً، ولكن الواحد من عندنا بألف من عندكم». ما زال صوته قوياً في رومية أيضاً. لحظات ويطل رجل مفتول العضلات، قصير القامة، إنه «عنتر». هذا عنتر الغبيري، أحد أمهر المزوّرين في تاريخ «الكار» لبنانياً. هذا الذي قتل، عن غير قصد، كما يقول، الضابط في الجيش اللبناني. «أنا قتلته نعم. لا أنكر. لست ممن ينكرون. لكني كنت مهدّداً من كثيرين، ولم أعرف أنه من الجيش. كان مدنياً، ولهذا أطلق النار عندما دخل عليّ مع رفاقه». يسكت قليلاً، ثم يتابع، وعشرات السجناء من حولنا ينصتون: «حزّت في نفسي كثيراً عندما عرفت أنه من الجيش. لم أحمل في قلبي يوماً إلا كل محبة للجيش، اسأل عني». وسيم عبد المعطي هنا أيضاً. الإسلامي الذي قتل الشيخ نزار الحلبي، قبل حوالى 17 عاماً، يقضي حكمه بالمؤبد. وسيم إسلامي غير محبوب من سائر السجناء الإسلاميين. تلك حكاية طويلة.
الصحافة داخل سجن رومية! السجناء لا يصدقون. بالنسبة إليهم، إنها «غزالة بابا نويل قد جاءت إلينا». صندوق بريد لشكاوى لا تنتهي. صحيح أن هذا المبنى «مسمي» على المحكومين، إلا أنه يضم نزلاء ما زالوا على ذمة التوقيف. هذا التوقيف يسمى احتياطياً، لكنه في الواقع، ومع تنميق اللفظة، اعتباطي بامتياز. هنا تملّ من سماع عبارة: «مضى على توقيفي 5 سنوات من دون صدور حكم... معقول؟!». ما يُفعل بهؤلاء ظلم اعتباطي، كل شيء هنا اعتباطي، باستثناء ما يشكون منه، فهو موثق لدى المحاكم «الملسوعة بذبابة النوم». بين الوجوه المكدرة، يظهر وجه شديد السمرة، يميّزه عن الباقين. إنه فضل جوك. السوداني الذي قضى 13 عاماً من حكم المؤبد، صار يتقن اللهجة اللبنانية. هو في رومية من قبل أن يصبح السودان سودانين.
عند الطبقة الثالثة، يستضيفنا ماهر المقداد، ومعه جمع من «كبار السجناء»، في غرفته. يسقينا القهوة. لديه سخّان ماء صغير، يحارب السجناء اليوم للحصول عليه بلا واسطة، لشرب الشاي والقهوة. المقداد في السجن على أناقته كما في الخارج. يقول: «أيعقل أن تجد الأكثرية هنا من البقاع؟ يؤلمني هذا. أيعقل أنهم أخلوا سبيل عميل إسرائيلي (شربل القزي) ونحن نُترك هنا؟». يتوجه إلى المسؤولين، وإلى جانبه عنتر، قائلاً: «إلى متى ستبقى الـ 38 ألف مذكرة توقيف بحق البقاعيين؟ أين نوابنا من هذه القضية؟».
جُند أسامة
هنا سجن آخر. ما زلنا في رومية. لكن المبنى «باء» غير كل الأشياء في رومية. يقول الضابط: «حسناً، ولكن على مسؤوليتكم». الإسلاميون، أصحاب المواجهات الدموية مع الجيش في نهر البارد، يسيطرون على هذا المبنى. ندخل على بركة الله. اللحى كثّة. الشوارب محفوفة. على الجدار الأسفل تستقبلك عبارة: «القاعدة على قلوب المنافقين قاعدة». الفضاء معتم. يزيد من رهبة المكان هطل المطر في الخارج. الماء «ينشّ» على ممرّ «المواجهات». يصرخ أحدهم: «صوّروا ما نعانيه. انظروا إلى الماء وإلى المجارير المفتوحة علينا. صوّروا وأرسلوا إلى الأمم المتحدة». مهلاً، إسلاميون وأمم متحدة! من يدخل ذاك المسمى، زوراً، سجناً للبشر، فقد يستنجد بالشيطان، الرجيم حتماً، للخلاص. نظارة السجن عند المدخل. رائحة العفن والرطوبة لا تطاق. سواد الجدران يزيد من كآبة المشهد.
فجأة، يتحلق أصحاب اللحى حولك. يخرق الحلقة شاب قصير القامة، ممتلئ الجسم، يقال له أبو عبيدة. إنه واجهة الإسلاميين هنا. يجول بنا، ومعنا ضابط الأمن الذي أصبح فجأة ناعم الصوت. للأسف، الكاميرات لا تنقل الرائحة، ولا الكلمات تفعل. الحمامات لونها أسود. كلها أسود. في المناسبة، الإسلاميون، بالأصل، كانوا يسيطرون على الطبقة الثالثة فقط، أما اليوم، وبعد خلع كل الأبواب الفاصلة بين الطبقات، صاروا هم حكّام المبنى برمّته. سطوتهم على كل من فيه. لا يتجاوز عددهم 150 شخصاً، لكنهم، بتوحّدهم، يسيطرون على نحو 800 سجين. في الطبقة الأولى يظهر «أبو تراب». إنه أحد سجناء «فتح الإسلام». مقطّب الحاجبين وهو ذو عبسة تكوينية. تتراءى من خلفه عبارة على الجدار: «جُند أسامة وجند الشام» (أسامة بن لادن). بين عبارات الجدار تجد كلمة «لا يجوز». ما هو الذي لا يجوز؟ ليس مهماً. هنا عليك أن تبحث عمّا يجوز وحسب.
شكواهم، كسواهم من السجناء، عدم المحاكمة. اللازمة ذاتها. منذ عام 2007 وقسم كبير من هؤلاء بلا محاكمة. في الواقع، لا شيء يبرر هذا. حق المقاضاة أحد بديهيات حقوق الإنسان في العالم. بين هؤلاء في السجن، سجناء جنائيّون كثر. قيل الكثير عن تطويعهم بالقوة من جانب الإسلاميين، وأحياناً ضربهم. حصل ذلك، وكل الأمل بأن لا نشهد إقامة للحدود الشرعية. أبو تراب، اليمني الجنسية، يقولها علناً: «من يكفر أو يعاقر المخدرات نضربه ونحاسبه». الكفر هنا يعني «شتم الذات الإلهية». الكافر مباح الدم في الأصل عنده، ولكن، حتى اليوم، لم يهدر دم أحد بعد. لنأمل أن يظل الأمر مقتصراً على الضرب. فجأة، يمسك أبو تراب شاباً من الجنوب بيده، يجذبه نحونا بقوة، قائلاً له: «قل لهم، أنضايقك نحن بشيء؟». يجيب ذاك الجنوبي: «أبداً، نلقى منهم أحسن معاملة». بدا الشاب مرتبكاً. راقبنا عن بعد خلال الجولة، وعند خروجنا، لم يجد ما يفعل سوى غمزة بعينه. بدت كإشارة غوث منه.
يأتي الشيخ أبو عمر، مرتدياً عباءة بنية، ويبدأ بسرد معاناته و«ظلم الدولة له ولسائر السجناء الإسلاميين، بل وغير الإسلاميين أيضاً».
صلاح عز الدين
المعاناة توحّد، أحياناً، ولو قليلاً. احزروا من هنا أيضاً؟
في وسط كل هذا الجو، ثمة غرفة صغيرة، في نهاية رواق مظلم، سنجد صلاح عز الدين. ذاك الذي دخل السجن بتهمة الإفلاس الاحتيالي، وما زال بانتظار قلب التهمة إلى إفلاس تقصيري. «أمله بالله كبير». يدعونا الرجل، الثري، إلى غرفته. لديه برّاد! «مايكروويف»، وسجادة... من يملك المال يمكنه إيصال أي شيء، أي شيء ودع خيالك يسرح، إلى داخل السجن. يدخل معنا إلى الغرفة أبو عبيدة. سجادة الصلاة، مع القرآن وتربة السجود على الرف. أبو عبيدة وعز الدين إسلاميّان. الأول سنّي سلفي والثاني شيعي متديّن، ونحن في الوسط. يضيّفنا صاحب الغرفة «البرازق». حبة حبة، إلا أبو عبيدة يأخذ «عكشة» ويودّع قائلاً: «بتوصينا شي يا حاج». الحاج ثري وهذا سلفي يلاطفه. رومية أرض العجائب.
في رواق مظلم آخر، يمرّ رجل خمسيني، ملامحه غير عربية. لا يتكلم العربية ولا الإنكليزية. يقولون لك إنه ماليزي. بدا خائفاً. رفض التوقف للحديث. دسّ نفسه بين الحشود وغادر بعيداً. «أنا القبطان»... يقولها مبتسماً. إنه أحمد الذي أوقف على متن الباخرة «لطف الله 2». تلك الباخرة التي كانت محمّلة بالأسلحة، المعدّة للتهريب إلى سوريا. طبعاً هو «مظلوم». الكلّ هنا «مظلومون». إنها لازمة كل سجين. الكلّ باستثناء «بروكس». ذاك الكهل كان الوحيد الذي أقرّ بجرمه لنا.
مئات السجناء من حولنا. لكلّ مطلبه. مهلاً، ثمة لغة أرمنية في السجن! «نعم أنا هاغوب جامبزيان». وفيما يقصّ علينا حكايته، ينظر إليه محمد المطيري ومبارك الكربي بغرابة. لغته غريبة على السعوديين، أتباع السلفية، الموقوفين على ذمة دم الجيش اللبناني في نهر البارد.




مارلين مونرو وأبو تراب

في المبنى «باء» لا توجد مكتبة. كان هناك واحدة ولكنها أحرقت في الانتفاضات المتتالية. لا مصنع أشغال يدوية هنا. الإسلاميون لا يحبون اللوحات والرسوم. من المكان الذي كانت فيه المكتبة، كان يمكن الإسلاميين، قبل أسابيع، الفرار جماعياً. كانوا يغطّون الثقب في الجدار ببعض الكتب والمصاحف. تماماً كما فعل «تيم روبنز» في فيلم «شاوشينك». تيم كان يغطي الثقب، الآخذ في حفره على مدى سنوات، بصورة كبيرة لمارلين مونرو. أبو عبيدة لا يحب مونرو. كلاهما يحبان الهرب. ما من سجين إلا ويحلم بالهرب. الفيلم يتحدث عن سجن كان في أميركا مطلع القرن الماضي. المشاهد كانت أقرب إلى الحقيقة. لكن، وبعد قرن من الزمن، وتطور البشرية، لا يزال ذاك السجن الأميركي المغلق أجمل بكثير، بما لا يقاس، من سجن لبنان المركزي في الألفية الثالثة.
كل شيء كان متاحاً لنا رؤيته في مبناهم، باستثناء الطبقة الثالثة. الإسلاميون لا يريدون لأحد الدخول إلى هذه الطبقة. رجال الأمن، بمن فيهم الفهود، ممنوعون من الدخول إلى هناك. وصل الأمر إلى حدّ توسط أبي عبيدة لنا مع مشايخه لكن من دون نتيجة. من هم هؤلاء المشايخ؟ ممنوع عليك أن تعرف. يقول أبو تراب و«انتهى البيان». يقال إن بعض هؤلاء يصدرون الفتاوى لمن هم خارج القضبان. يقال إن لديهم هناك أجهزة كومبيوتر (لاب توب). لديهم إنترنت سريع أيضاً. لديهم أيضاً ما لا نعمله. العلم عند الله... «والله وليّ التوفيق».





ملائكيّة في مجرمين

مضى على وجود نبيه في رومية 23 عاماً. كان صاحب الفضل في تأسيس مكتبة داخل حرم مبنى المحكومين. داخل المكتبة، المرتبة الرفوف، تجد على الجدران تنويهات لأبو رحال من القوى الأمنية. يدير المكتبة اليوم شاب أنيق، هو سجين بتهمة تزوير، مضى على سجنه حوالى 3 سنوات من دون محاكمة. نشأت درس إدارة الأعمال. يساعده سيمون في أعمال المكتبة. الأخير محكوم بالإعدام، وعمر علاقته برومية تزيد على 11 عاماً. طلبه بسيط: «نريد المزيد من الكتب». هنا ينتهي العالم عنده. المكتبة هي كل العالم. لحظات ويعرف إدريس بوجودنا. ينزل من غرفته إلى المكتبة. رجل سبعيني، ذو لحية طويلة ليس فيها شعرة سوداء. قضى هنا 18 عاماً. عراقي الجنسية، ولديه «قلم طيب». طلبه فقط: «لديّ كتاب منجز، وأريد منكم مساعدتي على طبعه ونشره». يغادر إدريس، العجوز الشبيه بالصورة النمطية للحكماء.
هؤلاء هم المجرمون في المجتمع. كلهم ولدوا أنقياء. ثمة ما أوصلهم إلى هنا. إبراهيم، أحدهم، يتمنى علينا سماع أغنية تقول: «مين في الحياة دي ما اتولدش بريء، ما بيختلفش عن الملايكة في شيء». ثمة إنسان داخل إبراهيم يأبى الموت. ما زال يحنّ إلى «الملائكية». يُحب الشعر أيضاً. يبكي عندما يلقى على سمعه من قصيدة للشاعر هشام الجخ: «الحب الحالة، مش شعر وقوالة. يعني إيه لما انحبس أربع سنين حبس احتياطي؟ الحب يعني جواب لكل المسجونين، همّا ليه بقوا مسجونين؟».