«هل زرتِه قبل الآن؟» يسأل الشاب الذي كلّف مرافقتنا من مبنى الأمن العام المركزي رقم 1 إلى مركز التوقيف الاحتياطي. «لا، هذه أول مرة». لا يعلّق. أغلب الظن أنه لم يطرح سؤاله منتظراً إجابة بقدر ما كان يريد الإيحاء بفرادة أو أهمية ما سنراه بعد قليل. السؤال كان العبارة الوحيدة التي تفوّه بها طيلة عشر دقائق استغرقها سيرنا وانتظار الانتهاء من الإجراءات الإدارية.
هذا ما يجعل له معنى أكثر من كونه جملة عابرة أراد بها فتح حديث. «هل زرتِه قبل الآن؟». وكأنه يسأل عما إذا كنا قد رأينا برج إيفل في باريس.
ولم لا تكون «نظارة الأمن العام» معلماً مماثلاً؟ إذا تذكرنا أين تقع، يمكن القول إنه يصعب على أي لبناني أن لا يكون قد رآها. هي في منطقة العدلية. أخذت هذه المنطقة اسمها من قصر العدل الكائن فيها منذ عقود. لكنه ليس المبنى الوحيد الذي يجعل المنطقة مقصداً لمئات اللبنانيين يومياً. وطبعاً هو ليس المتحف الوطني الذي يبعد أمتاراً معدودة، إذ لا حصة للأخير من الازدحام الذي تشهده المحلّة. هنا، في العدلية، يوجد بيت للمحامي. يقابله غرباً رئاسة الجامعة اللبنانية ووزارة الصحة ومبنى الأمن العام والسفارة الفرنسية، وغير بعيد عنهما المحكمة العسكرية. أما من الجهة المقابلة شرقاً، فنجد بيت الطبيب، وأحد مباني وزارة الاتصالات، ونقابة الصيادلة و... «مركز التوقيف الاحتياطي للأمن العام».
طبعاً، تعرف غالبية اللبنانيين أمكنة كلّ المباني الذي ذكرت باستثناء الأخير. وهذا طبيعي بما أن لا لافتة مرتفعة هنا أو هناك تدل إليه. بما أن لا شيء مرتفعاً يودي إليه أصلاً.. فهو تحت الأرض.
نعبر الشارع، ونسير في الاتجاه المؤدي إلى الحازمية، تحت جسر العدلية. قليلاً ما يعبر المارّة هذه الطريق سيراً على الأقدام. هي للسيارات غالباً. تعبر بسرعة، فلا يلتفت سائقوها إلى صفّ من المنتظرين على رصيف المشاة، أمام باب حديدي يؤدي إلى أسفل.
ليست هذه الـ underground التي نشأت كردّ فعل على الثقافة السائدة، ليست ثقافة بديلة وإن كان المقيمون تحت جسر العدلية من مهمشي مجتمعنا. هم الأجانب الذين لعنتهم جغرافيا بلادهم، كما لعنت جغرافيا العدلية مركز التوقيف الذي يحتضنهم. لا إمكانية هنا لنعرف شيئاً عن اهتماماتهم وثقافتهم، رغم جنسياتهم المختلفة. ليس لأن الحديث مع الموقوفين ممنوع فحسب، بل لأن ظروف المكان لا تسمح.
يتوزّع الموقوفون على13 زنزانة كبيرة، تقع في ممرّ طويل منفصل عن غرف الإدارة. عددهم 360، وهو مقبول بحسب المسؤولين الذين يقدّرون سعة المكان بـ 600. نستغرب. كيف يمكن العدد أن يتضاعف، إذا كانت الزنازين التي رأيناها مكتظة إلى هذا الحدّ؟ وحدها زنازين المرضى والأحداث مقبولة لجهة عدد المقيمين فيها.

لكن لا مجال لرسم علامات استفهام او استغراب. هنا، الكلّ مقتنع بأن الظروف التي يعيش فيها الموقوفون هي أفضل الممكن. الكلّ باستثناء الموقوفين. وهؤلاء، بالتأكيد سيشكون. لهذا كان الحديث معهم ممنوعاً. لكن لا بأس من مخالفة الشروط قليلاً. إذ لا يمكن أن تقف سيدة بنغلادشية، وتنادينا باكية، من دون أن نقترب منها. تنهمر دموعها كما تنهمر المياه من الصنبور. تحكي بعربية مقبولة. تقول إنها تريد أن تسافر إلى وطنها، وإنها موقوفة في المكان منذ أربعة أشهر. تقول هذا فيما عيناها على المقدّم الذي يرافقنا. هل هي خائفة منه. هل تعرف أن ما قالته يكشف انتهاكاً مبدئياً لنظام مركز توقيف احتياطي، لا يفترض أن يقيم الموقوف فيه أكثر من أسبوع إلى عشرة ايام؟ يبدو أن الكلّ يعرف هنا. وفي زنزانتها تحديداً، تبدو هذه المعلومة بديهية. فالعدد كبير جداً، ولا يعقل أن يكون قد أوقف كلّه في الأسبوع الماضي أو الذي سبقه.
في الزنزانة التي جمعت فيها الإثيوبيات والبنغلادشيات، لا مكان لشعرة إضافية. رصفن الفرش التي ينمن عليها طولاً وعرضاً، «كعب وراس» كما يقال. ورغم هذا الاكتظاظ لا يمكن لألوان الثياب الزاهية التي علّقت على قضبان الزنزانة إلا أن تخلق شعوراً إيجابياً بعض الشيء. شعور لا يلبث أن يختفي عندما نعرف أن كلّ هؤلاء السيدات يستخدمن أربعة حمامات فقط: اثنان للاستحمام واثنان لقضاء الحاجة. وهذه هي الحال في بقية الزنازين.
اللافت أن هذه السيدة كانت الوحيدة التي بادرت إلى الكلام بين النساء. الغالبية تابعن ما كن يقمن به. تجدل إحداهن شعر زميلتها، وتطوي ثانية الثياب، فيما تلعب مجموعة أخرى الورق... عند باب زنزانتهنّ، تجلس فتاة اثيوبية ترتدي قميصاً فوسفوري اللون فوق ثيابها. يوضح المقدّم الذي رافقنا أنها متطوعة للمساعدة في العمل. وكذلك يفعل شاب سوداني أدخل القهوة إلى غرفة العقيد نبيل حنّون الذي استقبلنا. السودانيون والمصريون هم الأكثر عدداً حالياً، يقول لنا. «وهم لا يتأخرون عندنا. أطول مدة يمضيها الموقوف هنا تصل إلى الشهر» يقول. لكن الشاب السوداني الذي صرخ بنا لنقترب منه خلال الجولة في السرداب الطويل، موقوف منذ تسعة اشهر. «ماذا أفعل هنا؟ أين مفوضة اللاجئين. أنا لاجئ». تسعة أشهر؟ نكرّر، فيؤكد رفاقه الأمر. كذلك المقدّم الذي يصف الأمر بأنه «حالة خاصة يجري حلّها مع المفوضية».
كم حالة خاصة توجد في المكان الذي «لا يفتقر إلا إلى نور الشمس؟». لا نعرف. ما نعرفه أن احداً من المقيمين تحت لم يعان بعد من أي مرض بسبب الرطوبة وغياب الشمس. ممثلتا «كاريتاس» تعملان هنا منذ ست سنوات ولا تعانيان من شيء. كذلك زميلتهما نانسي الموجودة منذ سنتين، والعقيد حنّون الذي يخدم منذ سنة.
ماذا عن الشعور بانقطاع النفس، وبأن شيئاً يجثم على الرئة؟ تضحك الفتيات. يقلن إنهن جرّبن هذا الشعور «في اليوم الأول فقط. بعدها لن تشعري به مجدداً».
هي المرة الأولى إذاً. لم يكن سؤال الشاب اعتباطياً. في المرة الثانية، سيكون وقع المكان أخفّ. اللهم إلا إذا حمل العام 2013 مفاجأة سارة... مفاجأة يحلم بها المسؤولون في الأمن العام الذين حرصوا قبل السماح لنا بالجولة على التأكيد أن «صورة السجن كما هي عليه اليوم تسيء إلينا أيضاً» يقول العقيد منير العقيقي، فيما يؤكد المقدّم رمزي الرامي أن «واحدة من أبرز أولويات المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم هي تأمين سجن بديل يليق بالنزلاء ويتناسب مع المعايير الدولية».