حين سُجِن الحطيئة على زمن الخليفة عمر بن الخطاب، خاطبه بقصيدة شهيرة يطلب فيها منه الصفح: «ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ/ زُغْب الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ/ ألقيتَ كاسبَهم في قعر مَظلمةٍ/ فاغفرْ سلامُ الله عليكَ يا عمرُ». هذه إحدى بواكير ما يمكن تصنيفه ضمن «أدب السجون».
سمّى العربُ هذا النوع من الشعر بـ«السَّجْنيّات»، ومنها سَجنيات الشاعر أبي فراس الحمداني الذي أسره الروم، وقد غنت أم كلثوم قصيدته التي تبدأ بـ«أراك عصيّ الدمع شيمتكَ الصبرُ/ أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ»، وغنى ناظم الغزالي أبياتاً من قصيدة أخرى يقول فيها: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة/ أيا جارتا لو تشعرين بحالي».
ما يبدو طريفاً ومسلياً في هذه الأمثلة التراثية القديمة، تحوّل مع مرور الوقت إلى وقائع مرعبة في تجارب الكتّاب والفنانين والناشطين السياسيين الذين عاشوا تجربة السجن والاعتقال في زمن الدول العربية الحديثة التي ما إن نالت استقلالاتها، حتى بدأت أنظمتها الحاكمة بترسيخ سلطتها من خلال ترهيب المعارضين وتدجينهم أو تصفيتهم. هكذا، بات علينا أن نفرّق بين السجن العادي الذي يضم محكومين بجرائم وجنح يُعاقب عليها القانون، وبين السجن السياسي الذي يضم معارضين ومعتقلي رأي.
أُنشئت السجون للعقاب والتأديب والإصلاح، وهي، بحسب ميشيل فوكو، مرتبطة بنحو وثيق بالأيديولوجية المهيمنة وتكنولوجيا التسلط، وهو ما أدى إلى نشوء هذه المؤسسات التأديبية لاحتواء العناصر التي لا تتجانس مع رؤية السلطة للمجتمع. يتحدث فوكو هنا عن شرائح مختلفة تعاقبها السلطة أو تحجزها خارج المجتمع الطبيعي، ولكن ما يهمنا هنا أن نتحدث عن السجن السياسي العربي، وعن النصوص التي أنتجها هذا السجن.
لم يكتب كلّ السجناء السياسيين تجاربهم. المعارضون ليسوا كلهم كتاباً بالطبع، ولكن موضوع السجن لم يعد أمراً هامشياً في الكتابة العربية. الدكتاتوريات العربية تكفلت بتعزيز حضور السجن كموضوع أدبي، ولا نعرف ما إذا كانت ثورات الربيع العربي ستخفف من هذا الحضور أو أنها ستقدم طبعات جديدة ومنقّحة عما سبقها.
لا نعرف بدقة أول من كتب رواية أو قصة أو قصيدة عن السجن، ولكن رواية «شرق المتوسط» للكاتب الراحل عبد الرحمن منيف هي الأكثر رسوخاً في ذاكرتنا كعمل سردي متكامل عن السجن السياسي، وخصوصاً أن الرواية تتجنب التفاؤل النضالي الساذج، وتتجاهل صورة «البطل الإيجابي»، لمصلحة الفرد الحقيقي الذي يمكن أن يُضعفه التعذيب الجسدي وظروف الاعتقال. هكذا، صار بطل الرواية «رجب اسماعيل» نموذجاً لبطل مضاد يجبره انهياره الجسدي على الخضوع لشروط السجّان من أجل إطلاق سراحه، وسفره لاحقاً للحصول على علاج. لم يسمِّ منيف اسم الدولة العربية التي تحدث فيها الرواية، واكتفى بأنها تقع في شرق المتوسط، وهو يعرف أن سجوناً ممثالة لسجن بطله موجودة على سواحل المتوسط العربية كلها تقريباً. هكذا، عاد بعد سنواتٍ طويلة ليكتب «الآن هنا/ أو شرق المتوسط مرة أخرى»، ليؤكد أن شيئاً لم يتغير على صعيد حرية الرأي والعمل الحزبي والسياسي، وأن الأنظمة العربية الحاكمة تخاف من أي معارضة وطنية.
وإذا كانت تجربة منيف ليست شخصية، فإن الروائي المصري صنع الله ابراهيم، كتب تجربته الذاتية في السجن في روايتيه «تلك الرائحة» و«شرف». ومثله فعل زميله شريف حتاتة في ثلاثيته «العين ذات الجفن المعدني»، حين خلط تجربته الشخصية داخل تجارب أخرى، بينما تناول مصري آخر هو محمد البساطي السجن السياسي من وجهة نظر تجريبية في روايته «أسوار»، وكذلك فعل وحيد حامد في سيناريو فيلم «البريء» الذي أخرجه الراحل عاطف الطيب، بينما كتب الشاعر محمد الماغوط نص «العصفور الأحدب» مستثمراً تجربة اعتقاله القصيرة والمرعبة التي ظل يتحدث عنها ويكتب عنها طوال حياته.
هناك روائيون آخرون كتبوا عن السجن من دون أن يتعرضوا للاعتقال، كما في رواية «السجن» للروائي السوري نبيل سليمان، بينما صرّح سوري آخر هو مصطفى خليفة بأن روايته «القوقعة» لا تمثل تجربته الشخصية، رغم أنه قضى سنوات طويلة في السجن، وهو ما فعله الكاتب المغربي الشهير الطاهر بن جلون في روايته «تلك العتمة الباهرة» التي روى فيها تجربة سجين مغربي معارض اسمه عزيز بنبين في معتقل «تزمامارت» الشهير. في جردة اعتباطية، يبدو السوريون الأغزر في إنتاج نصوص عن السجن السياسي. نتذكر أكثر من كتاب مدهش للقاص ابراهيم صموئيل، وخصوصاً «رائحة الخطو الثقيل» و«النحنحات»، ونتذكر تجربة زميله الشاعر فرج بيرقدار الذي أصدر ثلاثة دواوين عن تجربته، ونشر أجزاءً من سيرته السَّجنية في كتاب «خيانات اللغة والصمت»، وكتاب «بالخلاص يا شباب» لياسين حاج صالح.
في المقابل، هناك تجارب مختلفة عن السياق السياسي المباشر، كما هي الحال في كتاب «جدار بين ظلمتين» الذي روى فيها المعماري العراقي رفعة الجادرجي، وزوجته بلقيس شرارة، تجربتهما المشتركة في السجن.
التركيز على هذه الأسماء لا يعني أن البلدان العربية الأخرى تخلو من تجارب مشابهة، فعلى صعيد حرية التعبير، يمكن القول إن العالم العربي – باستثناءاتٍ نادرة وطفيفة – ما هو إلا سجن كبير.