قبل أيام، لاحظ المقيمون في شارع المطران في طرابلس تعرّض "المبنى الأصفر" المشهور لتكسير بعض شرفاته وتشويه واجهته ونزع الحديد القديم المشغول عنه واقتلاع أرضيته من البلاط والرخام، ونزع بعض شبابيكه وأبوابه. أظهرت هذه التعديات لاحقاً أن مالكاً جديداً للمبنى قام عمداً بذلك بهدف هدم المبنى وبناء مجمّع سكني وتجاري مكانه.
دفع هذا الأمر بعض سكان الشارع وناشطين في طرابلس إلى التحرك بهدف منع المالك الجديد من هدم المبنى، حفاظاً على إرث تراثي وعمراني تزخر به المدينة بشكل كبير، لكنه لا يسلم من تواطؤ بعض المسؤولين، ومن جشع تجار البناء الذين يسعون إلى تعريض تاريخ المدينة وذاكرتها للهدم والتدمير من أجل تحقيق مصالحهم.
توضح الناشطة ناريمان الشمعة لـ"الأخبار" أن "هذا الموضوع نتابعه منذ سنة تقريباً، وعلمنا بأن هناك تاجر بناء اشترى مبنيين تراثيين في الشارع ملاصقين لمبنى مركز مخابرات الجيش".
تروي الشمعة أن "هذين المبنيين كانا مأهولين بالسكان، لكن المالك الجديد عمل على إخلائهما بعدما دفع تعويضات للقاطنين، ثم بدأ لاحقاً ينزع حديد الشرفات والبلاط القديم المستورد من إيطاليا وفرنسا حينها، ليفتح بعد ذلك صنابير المياه التي تسربت فيهما من أجل تصوير أنهما مهملان ويهددان سكان الجوار، وأنه يجب هدمهما، بعدما قدم رخصة بهذا الصدد إلى البلدية".
تعتبر الشمعة أن قرار الهدم الذي أعطته البلدية للمالك الجديد غير قانوني

تتهم الشمعة البلدية "بالتواطؤ مع المالك الجديد للمبنيين من أجل تسهيل قرار الهدم"، وتشير إلى أن "قراراً صدر عن مديرية الآثار عام 2012 ينص على أن أي قرار هدم للمباني في طرابلس يجب أن يحظى بموافقة المديرية، لذلك تحركنا إعلامياً وفي الشارع ضد البلدية والمالك الجديد، وتصدّينا لقرار الهدم عبر اتصالنا بالمديرية، التي أرسلت مندوباً عنها هو سركيس خوري فعاين المكان وأنجز تقريراً قبل أن يتقدم بشكوى ضد المالك الجديد في مخفر المنطقة الذي استدعاه، وأخذ منه تعهداً بعدم التصرّف بالمبنى، ووضع شمعاً أحمر على مدخله لمنع أي جهة كانت من التصرف به قبل بتّ أمره".
تعتبر الشمعة أن قرار الهدم الذي أعطته البلدية للمالك الجديد "غير قانوني وغير منطقي ويستند إلى حجج ضعيفة، كما أنه في حال إمراره سيجهض الجهود التي تبذلها مديرية الآثار لوضع مدينة طرابلس على لائحة التراث العالمي، وخصوصاً أن طرابلس الآن موجودة ضمن المرحلة التمهيدية، وفي حال توافر العناصر اللازمة والشروط الضرورية، ستوضع على اللائحة العالمية".
بدورها، توضح مديرة معهد الآثار والترميم في الجامعة اللبنانية في طرابلس الدكتورة راوية مجذوب، أنه "يوجد في طرابلس مبان عديدة خارج نطاق المدينة القديمة المصنفة بأنها تاريخية، تعود إلى مطلع القرن العشرين، وهي جميلة جدّاً ومزخرفة ومنسجمة وتتميز بطابع عمراني خاص، سواء من ناحية واجهاتها أو نوعية المواد التي استخدمت في بنائها، من الحديد المشغول والبلاط والنوافذ والأبواب وغير ذلك، وهي مبانٍ لا يمكن تجاهلها والسماح بهدمها من أجل بناء أبراج أو أبنية باطونية مكانها بلا هوية ولا تحمل ذاكرة المدينة".
وتشير مجذوب إلى أن "هذه المباني تعبر عن مرحلة تاريخية من ذاكرة المدينة، تمثل الفترة الزمنية التي انتقل فيها أهل طرابلس من قلب المدينة القديمة للسكن خارجها بشكل تدريجي، وهي أبنية تتميز بالانسجام العمراني في ما بينها، لجهة التساوي في ارتفاع عدد طبقاتها وانسجام واجهاتها مع بعضها البعض، إلى حد يجعل أي شخص يمر في الشارع يشعر بارتياح لما تراه عيناه، ويألف المكان".
ترى مجذوب أن هدم هذه المباني من أجل تشييد مبانٍ باطونية أخرى مكانها، لا صلة لها بالمكان، هو أمر غير مقبول لأنه يشطب من الذاكرة مرحلة مهمة من تاريخ المدينة وتطورها، "لذلك علينا بذل جهد من أجل الحفاظ على المباني القائمة، وتأهيلها وترميمها وليس هدمها".
وتلفت إلى أنها ستسعى إلى "عقد طاولة مستديرة تضم كل المعنيين بشؤون المدينة في هذا المجال، وطرح هذه الإشكالية، من أجل وضع خطة عمل تدرس وتنظم كل هذه الأمور، ووضع ضوابط حول المباني التي يجب ترميمها وتأهيلها، وما هو المسموح بهدمه وما هو غير المسموح".