شوقي أبي شقرا* الخلاصة هي الخلاصة، وسعيد عقل هو سعيد عقل. ذلك الهابط من المدينة، من زحلة، من ذلك المدى البقاعي، من تلك الأرض الغنّاء. وذلك الآتي كأنه الشهاب الجديد الذي لم يغادر السماء، لم يترك الفضاء القريب ولا سيما البعيد. ولم يترك الأرض التي عليها درج أدراجه وأرسل موهبته الكامنة في قماشة من المخمل حيث الزمرد وحيث قرى عالقات وحيث لآلئ هي من الطبيعة كما من ذاته البرّاقة، وحيث القبس السكران والرياح الظريفة التي تهبّ شعلة فشعلة. وتهب من هذا الشاعر الذي راح والكلمة، راح واللغة العربية، راح واللغة المحكية، رواحاً الى الأسرار وإلى اليقظة كما في الحكاية المتوارثة. وهو أيقظ اللغة وفعل ما يفعل الحبيب الساهر على حلوته النائمة في ما يشبه القليل وفي ما يشبه الكثير. وفي ما يشبه سيداً في مجاله، في متسع قصره. وهو الذي أتقن الصناعة المضيئة وأتقن الفروسية في صدّ النافل والحفاظ على الجوهر، على الناصع في القول. والناصع في زواجه هذا بين الحرف والحرف، بين سطر وسطر، وبين جديلة وجديلة، وبين تختٍ من الواقع الذي يتسامى وتختٍ هو القصيدة، وهو المرأة وإنما في مهابتها وفي عليائها وليست كأنها لا شيء.
سعيد عقل الشاعر الذي أربى على المئة ونيف من الحياة الصريحة والمنبعثة من رمادها والتي كان لها الآخذ، وكان لها العطاء، عادة صارت إليه من أبيه وأمه. سعيد عقل الذي أمامنا والذي إطاره كبير إنما ينصرف لحظة قصيرة الى مثواه، الى بهاء الآخرة، لأنه هو، قبل ذلك، يظل يحضر في ملء الحضور وفي ملء الوجود، ونراه وسوف نراه الى حقبة أخرى وإلى مساحة ولا نهاية.

والرؤية هي من الجودة ومن الإتقان، بحيث تصل الى مكان قصي، الى حدود الألق، الى حدود كأنها ألوان يلي بعضها بعضاً. وإلى أن هذا الغنى لديه كأنه أغنى وأحلى من قوس قزح.
سعيد عقل كان الذي، منذ أن غدا فتياً، رزق أن يكون متلاعباً بالوتر، بل بالأوتار. وأقصد أنه مذ عكف على الكلمة كان في مستوى الصائغ، وكان في لمعان السيف حين يطير من غمده، وحين عمل على استعماله في أبجديته، في محترفه المزدحم، وفي كونه ينظر الى هذه الأداة نظرة المندفع اندفاعاً صوب الغاية، غاية الحصول على المجد وعلى المتعاظم، وكأن ذلك في وجدانه، يضاهي أعمدة بعلبك، ويضاهي مآثر جمة كانت المجهول وكانت غاية على حدة. وهو جاء إليها، وجعل دوره في الباحة، باحة الشعر اللبناني والأطراف المتمادية في هذا الشعر وهذا التراث حتى لتطفح الكأس في قاموسه، وفي دربته القائمة على الوزن والقافية. إذ هو ذو براعة ولا انتهاء، في صنع البيت، وفي بحور الخليل، ولعله مثال سينقضي، ولن نجد آخر في ما كان شاعراً وناثراً على نوعية لا تقاس بسواها.
وسعيد عقل مرت عليه السحابة بل الغيوم، وكان المطر عنده بين غلطة وصواب. وكان أنه نظرة سخية نحو وطنه، نحو لبنان الأكبر من الدنيا، من أن تصدمه عقبة كيفما كانت، ويتناثر في الهواء حتى بلوغ الحضيض.
كان سعيد عقل في صدد وطنه المثالي، ذلك الغريد، ذلك الطموح، وذلك الشاعر الذي كان اكتشافه يصقل ويصقل ويطلع ثم يطلع. وكان صلاح لبكي وفؤاد أفرام البستاني هما الدفة، وعبرهما انطلق الزحلاوي القدير والساطع. ولما تم ذلك، جاء الى بيروت لافتاً إلى قلمه، إلى قصيدته، إلى قصائده، الى مسرحيته «قدموس» وإلى جملة أركانه الأدبية، وكان الذي هيأ المائدة. مائدة مؤلفاته، وإذا الجميع في لفح بيدره وما أعذبه، وتجربته وما أطول ما كانت، بحراً من السنوات السمان، ومن التأنق ومن اللعب بفن اللفظة وفن الحركة وفن الفاصلة وفن التقنية. وهنا، قبل أن يكون الغد، نقول إن موجة الحداثة حين اهتدت إلى مصيرها، وانجلى الليل المستطيل بين العكس والعكس هي تخلت بعض التخلي عما لدى سعيد عقل ولدى الجيل السابق حيث هو، ولدى الصخب والرفقة والمتأثرين عما سكن وكان المنشود في تلك الأيام الجميلة، قبل أن يحل الصحو في العقل المطل الذي أطلّ وغرس الراية في التلال الجدباء، وانتقل الزمان الى زمان قشيب يهوى الارتحال الى المنصة المفتوحة على سعادة مطلقة.
إنه ينتحي ولا غياب وإنه في البهو ولا في انتظار. حاشاه ونحن نمنحه الجائزة واسمه المرنان.
شاعر لبناني