«ارفع قدمك، نحن كنا وسنبقى أسفلها في خدمتكم». بهذه العبارة، وبلكنة عربية «مكسّرة»، أجاب «أبو علي»، القيادي في الحرس الثوري الإيراني، أحد المقاومين الغزيين الذي كان يخضع لدورة عسكرية في إيران عام 2012. أتى الجواب رداً على عتب على الإيرانيين لأنهم لم ينقلوا تكنولوجيا الصواريخ إلى غزة قبل عدوان 2008. فقد سأل «أبو جهاد» مدربّه: «أين كنتم في الحرب الأولى (عملية الرصاص المصبوب)؟».
رحلة ذلك المقاوم الذي مكث في ضيافة الحرس الثوري الإيراني 11 شهراً. قبل عام 2012، وتحديداً حينما كان أبناء المقاومة يمرون عبر سوريا، كانت سلطات دمشق «تخصص ممراً للمقاومين الغزيين، وكانت السيارات تنتظرهم على مدرج المطار، لأخذهم إلى مكاتب التنظيمات التابعين لها». يقول قيادي فلسطيني بارز: «إن كانت رحلتهم في اليوم نفسه، كانوا ينتقلون من طائرة إلى أخرى من دون السؤال عن تأشيراتهم أو جوازات سفرهم».
غالبية السلاح وخاصة
«فجر» دخلت في عهد مبارك واستخدمت في حربين

في طهران، خضع المقاومون لدورات تدريب مكثفة، وعلى مدار أشهر قضوا رحلة في اكتساب الخبرات، بدءاً من تطبيق العلم النظري بأيديهم، ثم تجريبه في بيئة مشابهة لجغرافيا القطاع، حتى صعودهم «على متن طائرة الهليكوبتر المسماة شاهد، لمعاينة أماكن سقوط الصواريخ ومدى فعاليتها ودقتها بل قربها من الهدف»، كما يروي أبو جهاد.
نقل المقاومون تجربتهم إلى غزة، لجهة تصنيع الصواريخ وتطويرها، وكيفية تربيضها وتخبئتها رغماً عن عيون الاحتلال المنتشرة في الفضاء والأرض. هذا الأسلوب في التدريب لم يكن حكراً على «زوّار إيران»، إذ كانوا خلال وجودهم في سوريا يخضعون للأسلوب نفسه. وفي إحدى المرات خلال تدريباتهم على إصابة الأهداف في البادية السورية، سقط أحد الصواريخ قرب مهجع للجنود وأصيب بعضهم.
مع نهاية عام 2001، أعلنت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، لأول مرة تصنيعها صواريخ «القسام». ولم يتجاوز مدى الصاروخ 15 كلم، وفي أغلب الأحيان يسقط بعضها قرب الأحياء الملاصقة لأماكن إطلاقها، أو حتى تنفجر قبل الإطلاق، فيما كانت أكثر المستوطنات المستهدفة هي «سيديروت» التي تبعد أربعة كيلومترات عن الحدود الشرقية لغزة.
خلال تلك الأعوام (العدد ٢٣٨٠ الجمعة ٢٩ آب)، عانى المقاومون قلة الخبرات في مجال التصنيع، بالإضافة إلى صعوبة تأمين المواد الخام اللازمة. لكن منذ 2005، وبعد انسحاب العدو الإسرائيلي من محور «فلاديلفيا» (رفح)، تنفس المقاومون الصعداء، إذ أصبحت الحدود الجنوبية مع مصر مفتوحة أمامهم، ما وفّر مناخاً مريحاً لتهريب السلاح والمواد الأولية لصناعة الصواريخ عبر الأنفاق. منذ ذلك العام، وصولاً إلى 2012، سعت الجمهورية الإسلامية، مع حزب الله، إلى تطوير صواريخ المقاومة الفلسطينية، وتذخيرها بمديات أبعد. فبدأت آنذاك مرحلة جديدة زار فيها مقاومو غزة لبنان، ونسقوا مع المقاومين هناك لعمليات تهريب الأسلحة.
وبعيداً عن الصورة النمطية بتسلل السفن إلى الشواطئ، كانت كميات كبيرة من السلاح ترمى في نقطة معينة من البحر بعيدة جداً عن غزة، وكانت التيارات المائية تجرفها باتجاه شواطئ القطاع حيث كان يسحبها «الضفادع البشرية» ليلاً. أما أشهر طرق التهريب فكانت عبر «الأراضي السودانية، ومنها إلى مصر، ثم إلى سيناء، ومن هناك إلى الأنفاق المخصصة لتهريب الأسلحة»، كما يقول مسؤول بارز في حماس.
كانت الأسلحة ترمى عند
نقطة في البحر وتجرفها التيارات إلى شواطئ غزة

لاحقاً، أدرك الإيرانيون العائق اللوجستي الذي واجه المقاومين في تهريب السلاح، أي العجز عن إدخال الصواريخ الكبيرة عبر الأنفاق، لذلك عمل الحرس الثوري على تصنيع صواريخ فجر خمسة يمكن فكّها وتجمعيها لاحقاً فوق التراب الفلسطيني. وصلت أولى صواريخ «فجر» إلى غزة عام 2011، واستخدمت للمرة الأولى خلال عملية «عمود السحاب» عام 2012، عندما قصفت المقاومة الفلسطينية تل أبيب للمرة الأولى. اتهمت إسرائيل آنذاك الحرس الثوري بتهريب الصواريخ للمقاومة، فرد قائد الحرس، محمد علي جعفري، معلناً أنه وضع منظومة «فجر» بين أيدي المقاومين وسيسعى إلى تزويدهم بمنظومات أخرى.
كانت «فجر» أكثر الأسلحة تأثيراً في عمل المقاومة، لكن بقيت أزمة محدودية الكمية التي يمكن للمقاومة تهريبها من هذه المنظومة. هنا أكد «أبو جهاد» أنّ «هاجس إدخال كمية محدودة من الأسلحة، بالإضافة إلى الخشية من انقلاب الوضع الأمني واشتداد الحصار بما يمنع دخول السلاح إلى غزة بسهولة، كله كان حاضراً في أذهان الحرس الثوري خلال أشهر التدريب». وتابع: «عمل المدربون على إعداد دورات متخصصة في مجال صناعة الصواريخ»، إذ إن «الإيرانيين» جمعوا معلومات وافرة عن المواد الخام المتوافرة في القطاع، وقربه، لتصنيع الصواريخ، وطوروا هذه المواد بما يزيد فعاليتها»، وبذلك «صنعنا الصواريخ بأيدينا في إيران، ومن مواد شبيهة لتلك المتوافرة في غزة وتأكدنا من فعاليتها»، وفق قوله.
زمن حسني «الذهبي»!
مصادر قيادية في «الجهاد الإسلامي» قالت إن «غالبية السلاح الذي وصل غزة واستخدم في معركتي 2012 و2014 دخل في عهد (الرئيس حسني) مبارك، وخصوصاً في العام الذي شهد ثورة 25 يناير وما تلاها من تنحي مبارك عن الحكم». وأضاف أنه خلال تلك الأعوام «كان هناك نوع من غض النظر عن التهريب في سيناء، وجرت عمليات التهريب بمساندة قبائل كبيرة مقابل مبالغ مالية هائلة».
في السياق، قال مسؤول في «حماس» إنه «كان يجري الاتفاق مع الضباط المصريين على عدد محدد من الأيام يمكن المقاومين فيها التهريب». أما في عهد محمد مرسي، الذي حدثت فيه حرب الأيام الثمانية (عمود السحاب) وخرجت فيها مفاجأة «الفجر»، فكانت المقاومة قد امتلكت مخزوناً لا بأس به من الصواريخ والمعدات. وتؤكد المصادر الفلسطينية أن «تهريب السلاح في عهد مرسي كان أصعب من أيام مبارك، لكن الفائدة الوحيدة في عهده سهولة خروج المقاومين من غزة من أجل التدريب». وقيل أيضاً إن الرئيس المعزول قد استصدر «بطاقات تسهيل مرور تسمح بخروج كثيرين من القطاع من دون أي مضايقات أمنية».
بعد حرب 2012، وتيقن العدو من طرق تهريب السلاح إلى غزة، بل استهدافه القوافل على الطريق وأماكن تخزين الصواريخ، وخاصة حينما قصفت الطائرات الإسرائيلية (أواخر 2012) قافلة سلاح في السودان قالت إنها كانت متوجهة إلى غزة، أدرك الإيرانيون أن الحل الأفضل لتذخير المقاومة الفلسطينية هو تصنيعها الصواريخ محلياً عوضاً عن تهريبها.
تأسيساً على ذلك، عملت طهران وحزب الله على تدريب أبناء القطاع على «تركيب مصانع لتصنيع الصواريخ»، كما يقول أحد القيادات، ثم جاءت عملية «الجرف الصامد» لتظهر قيمة أشهر التدريب التي جرت في إيران، وترددت معها عبارة «محلي الصنع» كثيراً، في بيانات المقاومة.
ولم ينكر الإيرانيون أن الصواريخ التي أطلقتها المقاومة محلية الصنع، فكما قال مساعد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، إن الحرس الثوري نقل تكنولوجيا صنع الصواريخ إلى الفلسطينيين.
أما عن الطائرات بلا طيار (أبابيل) فتقول مصادر «الجهاد» إنها كانت ثلاث طائرات سلمتها إيران لـ«القسام» من أجل مهمّات معينة، «لكن جرى إسقاطها وأعلن ذلك».
وعموماً، فإنه في الحرب الأخيرة أسهمت الصواريخ «المحلية» (كتائب القسام، M75) مع وجود كميات كبيرة منها في استمرارية الكثافة النارية على الوتيرة نفسها حتى اليوم الأخير من المعركة، فيما استخدمت سرايا القدس صاروخي براق «70 و100» لقصف تل أبيب ومدن أخرى، والواضح أن الصناعة والوقود الدافع لكلا الصاروخين من أصل واحد. في هذه المرحلة، جرى النقاش بين قيادات المقاومة (اللبنانية والفلسطينية والإيرانية) في طبيعة الصواريخ المحلية، فتقرر أن تكون هذه الصواريخ ذات رأس متفجر صغير، لكن بمدى أبعد، وذلك لأهداف ميدانية وأخرى سياسية.ويشرح قياديون في المقاومة الفلسطينية الفرق في التكلفة بين صناعة الصواريخ محلياً وتهريبها من إيران، ويقولون إن «الصواريخ المحلية لديها قدرة مقاربة لقدرة الصواريخ المهربة، لكن بتكلفة أقل، إذ لا تتجاوز تكلفة صناعة صاروخ كالذي قصفت به تل أبيب خمسة آلاف دولار، فيما قد يكلف الصاروخ المهرب 15 ألف دولار». أما عن الصواريخ القصيرة المدى، مثلاً، فـ«تكلفة صاروخ الـ107 المهرب تصل إلى 800 دولار، فيما يمكن صنعه محليا بـ110 دولارات». وفي الحرب الأخيرة، استمرت المقاومة الفلسطينية في تصنيع الصواريخ، لكن المشكلة ظهرت في نقل هذه الصواريخ من المصانع إلى أماكن إطلاقها. ويذكر المقاومون في غزة أنّ من «غير المعروف لغالبية العناصر أماكن تصنيع الصواريخ، حتى إن بعض الفصائل تحرم مصنعي صواريخها معرفةَ الأماكن التي دخلوا إليها، كذلك لا يعرف طابخ الصواريخ إلى أين تذهب جهوده، فهناك من يأتي لأخذه وإعادته إلى منزله».
وبرغم التصنيع المحلي للصواريخ، لا يمكن القول إن تهريب السلاح انتهى، لأن ما ينجح تهريبه لا يجري إعلانه إن كان عبر البحر، أو من صحراء سيناء. وتقول مصادر بارزة في «الجهاد الإسلامي» إنه حالياً يجري الاعتماد على التصنيع المحلي، إذ «تتوافر مواد أولية ممتازة وبسعر جيد في السوق». ومن المؤكد أنه يجري الآن تقويم الحرب الأخيرة عسكرياً، من إيران وحزب الله وحتى بعض الجهات السورية، لمعرفة الاحتياجات اللازمة في ظل تدفق دعم مالي كبير للأجنحة العسكرية للمقاومة بعد الحرب.