صديقنا كان صغيراً في «العيد الخمسين»، فضلاً عن أنّه من عائلة وبيئة تحتفلان بعيد تأسيس حزب الكتائب، لا الحزب الشيوعي! لم يكن قد سمع بوجود حزب شيوعي أصلاً. كان قد فهم أن هناك مواجهة ما في البلد ـــ مثل أفلام الكاوبوي التي يدمنها ـــ بين فئة الأخيار التي ينتمي إليها، وفئة الأشرار «الذين لا يحبّون لبنان». بعد ذلك عرف أنّهم غرباء وملاحدة وناصريّون ويساريون ومخرّبون و… طابور خامس أو «عملاء الشيوعية الدوليّة». ثم مرّت الأيّام، وكبر المراهق الذي ربّاه والده المثالي على حب القراءة، ودخل إلى الجامعة، واكتشف الفكرة الشيوعيّة في «الغيتو الانعزالي» إيّاه.
صار يسمع «وعود من العاصفة»، ويقرأ بريخت وأراغون وناظم حكمت، ويغني لثورة القرنفل، ويبتسم ساخراً حين تطالعه على جدران الأشرفيّة عبارات من نوع «لقحوا أطفالكم ضدّ الشيوعيّة». يبدو أن اللقاح لم ينجح معه. أصلاً لم يحاول أحد أن يلقحه، بل بالعكس: الأفكار والكتب والمثل الأساسيّة التي تربّى عليها في بيته، هي نفسها رافقته في الانعطافة الهادئة التي دعاه إليها أستاذ الأدب في تلك الثانويّة البعيدة. «في حياة كل منّا أستاذ أدب»، كما قال ألان بورير، أحد دارسي سيرة آرتور رامبو، معلّقاً على رسائل الشاعر إلى جورج إيزامبار، أستاذه في شارلوفيل. تلك التحوّلات، عاشها صديقنا في بيئته السوسيو ثقافيّة نفسها. هكذا راح يشعر بقربه من الحزب الشيوعي. هكذا بإمكان آلاف الصبايا والشباب اليوم، في عمره آنذاك، من كل البيئات، أن يبحثوا عن وطنهم وانسانيّتهم في الحزب الشيوعي الذي يطفئ شمعته التسعين.
صديقنا كان صغيراً على تظاهرات «معمل غندور»، التي تعرّف إليها لاحقاً في قصيدة شهيرة لعبّاس بيضون. في عام ١٩٧٤، لم يكن هناك أي احتمال لوجوده في «عروس البحر»، لكنه عوّض لاحقاً في جلسات استماع شبه صوفيّة، تحت القصف، مع «رفاقه» في الغيتو آنذاك، لتسجيلات العيد الخمسين للحزب الشيوعي اللبناني. لذا يشعر اليوم، وقد غزاه الشيب، كلّما ذهب لتدخين نفَس في المقهى الشعبي الشهير، أنّه كان هناك. يعرفهم جميعاً: من جعفر حسن الذي يعود الآن إلى بيروت للمشاركة في احتفالات العيد التسعين، إلى ثنائي حب مصر عدلي فخري وسمير عبد الباقي. بوسعه اليوم أن يردد أغنيات «عروس البحر، ١٩٧٤» بحرفيتها، وبالتسلسل الموجود على شريطي الكاسيت اللذين بريا من كثرة الاستماع. «الدم في طبق الرئيس الأمريكاني، الدم فوق صدر الوزير المعجباني، الدم في المزيكا وف نوط الأغاني… ألخ». كأنّها أغنية كتبت هذا الصباح! أربعون سنة، ولم يتغيّر شيء في طبيعة الصراع. الذي تغيّر أن أحد أطراف المواجهة، ذاك المعادي للاستغلال والاستعمار، ضؤل حتى لم نعد نراه خلف دخان الذكريات الكثيف، وتشنّج الأباراتشيك الممسكين بالجهاز، ومرارة «القدامى» واليائسين والمستقيلين والخائبين، وسخرية «الأسبقين» الذين مضوا إلى الخندق المعادي، كما يحدث دائماً. «الحزب» لم يعد كما هو. لم يعد يستقطب، لم يعد يمثّل، لم يعد يحمل مشروعاً. هذا الحزب الذي كان يردد جوزف سماحة، أنّه المكان الوحيد الممكن أن نلجأ إليه عندما نخرج من طوائفنا. وقد عبر عن فكرته تلك في فيلم رحل قبل اتمامه، لماهر أبي سمرا مع زياد الرحباني وابراهيم الأمين. «بيروت ٧٤» (عن غادة السمّان بتصرّف)، كانت كل الآمال مسموحاً بها والمشاريع الكبرى ممكنة، لتحقيق العدالة والحريّة. وكان للحزب الشيوعي قواعد شعبيّة، وكان يشكّل حالة محوريّة في الحياة الفكريّة والثقافيّة اللبنانيّة. «بيروت ٢٠١٤»، لا شيء يعلو فوق لغة الطوائف والمذاهب، والشعب ما زال يؤيد جلاديه، وبعض أهل العروبة سيحجّ قريباً إلى تل أبيب. والطوائف المذعورة تنتظر وصول البرابرة الجدد لترفع الرايات البيض…
كلا، ليس انهيار جدار برلين حجة شافية، يقول صديقنا. ويسأل، هو الذي ينتمي إلى اليسار، ولم يفقد شيئاً من قناعاته الـ (ما بعد) ماركسيّة، لماذا يشعر اليوم بأن «الحزب الشيوعي اللبناني»، هو كائن متحفيّ غامض يشبه حزب «النجّادة»؟ لكن دعنا أيها الصديق العزيز لا ننغّص فرحة العيد. ولتكن الذكرى التسعون، مناسبة لانبعاث حزب فرج الله الحلو وحسين مروّة ومهدي عامل ومحمد دكروب… هل نجرؤ على استعادة الأمل؟