فجأة حُلّت عقدة السلسلة. لم يعلم أحد ما الذي حصل، ليتبين فيما بعد أننا امام إحدى أكبر الصفقات «السوداء» في تاريخ لبنان: سيشرّع النواب تعدياتٍ على الأملاك البحرية تحت عنوان «التسوية» فيصبح احتلال الملك العام مقونناً. كذلك ستُنجَز الحسابات النهائية للدولة عن كل السنوات السابقة من دون أي محاسبة.
فجأة ستطوى صفحة «حسابات مشبوهة» لنبدأ صفحةً جديدة لا يسأل فيها أحد عن مالٍ عام أو ملكٍ عام، إضافة الى ذلك سيسدد المقيمون في لبنان ضريبة اضافية على استهلاكهم، ورسوما كثيرة على الخدمات وغلاءً مفتعلا للاسعار، من دون ان يحصل الموظفون والمعلمون والمتعاقدون والمتقاعدون على حقوقهم.
يحزن الوزير السابق شربل نحاس على ما وصلت الأمور إليه، يرى أن ما يحصل اليوم «تصفية سلطة غير شرعية لأكبر تحرك شعبي حصل في تاريخ لبنان». يتساءل نحاس عن التوقيت الذي طُرحت فيه السلسلة و»تزبيطها»، فالآونة الأخيرة كانت أكثر المراحل هدوءً في ما يخص معارك السلسلة، وكان الضغط في أدنى مستوياته. يرى أن القوى السياسية تريد استكمال ضربتها للقضاء على هيئة التنسيق النقابية بعدما سدّدت ضربة الإفادات. خافت القوى السياسية من الشعور الذي تولّد لدى الناس، وتحديداً ضمن الإدارة بأنهم قادرون على الوصول إلى حقوقهم من خلال الضغط على السلطة، لذلك قرروا المضي بالسلسلة بعدما أنهوا مفاوضاتهم حول كيفية تحميل عبء السلسلة وثمنها للفقراء.
الغريب في المواقف المعلنة هو أن «تشريع الضرورة» نجح في تحقيق أمرين: الأمر الأول هو توافق طرفين متناقضين هما الهيئات الإقتصادية وهيئة التنسيق النقابية على أن هناك «صفقة» قد عُقدت من أجل ضرب حقوق الموظفين و»الاقتصاد». والأمر الثاني هو اعتراف الهيئات الاقتصادية بأن مطالب الموظفين خلال السنوات التي مضت هي «حقوق» لا تؤمنها لهم هذه السلسلة. تطرح هذه المواقف تساؤلا يحتاج إلى البحث: إذا كانت الهيئات الاقتصادية ترفض السلسلة، وكذلك هيئة التنسيق النقابية، فما الجدوى إذاً من طرح السلسلة بهذه التعديلات، ما دام طرفا النزاع يريان أنها لا تحقق مصالح أيٍّ منهما؟ الهيئات الاقتصادية أعلنت أن «الصفقة التي توصلت إليها القوى السياسية، بسحر ساحر، ليس الهدف منها إعطاء هيئة التنسيق النقابية والعمال والعسكريين حقوقهم، بل على العكس تماما، لأن التعديلات التي وردت في مشروع السلسلة الجديد، ستؤدي أولا إلى ضرب حقوق الموظفين، وستؤدي ثانيا إلى التضحية بالاقتصاد اللبناني». كذلك جددت رفضها «للزيادات الضريبية التي وردت في مشروع السلسلة المقترح»، مؤكدة أن «هذه الزيادات الضريبية لن تساهم في حل الأزمة بل ستخلق أزمة أكبر».
القوى السياسية
تريد القضاء على هيئة
التنسيق النقابية

هذا ما يلفت إليه رئيس الجمعية اللبنانية الاقتصادية جاد شعبان، الذي يؤكد أن «زيادة الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 1 % ستؤثر في الكثير من السلع الأساسية مثل البنزين والخلوي اللذين تشملهما هذه الزيادة، وليست كما يشيعون بأنها تمس فقط السلع الثمينة». يرى شعبان أن الطريقة التي جرى فيها تمويل السلسلة تكرّس مبدأ التمويل من جيوب الناس، مشيراً إلى أن «اعتماد الحكومات على زيادة الضرائب غير المباشرة عوض زيادة الضرائب المباشرة يؤسس لمبدأ التمويل من جيوب الفقراء، لأن الزيادة على الضرائب المباشرة تؤثر على نحو قوي على أصحاب رؤوس الأموال».
لن يقتصر الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون على ضريبة القيمة المضافة فقط، بل سيتخلون اليوم عن أملاكهم العامة البحرية عبر تشريع جميع المخالفات البحرية في أكبر «فضيحة» يمكن أن تحصل في أي دولة. يوضح نقيب المهندسين السابق إيلي بصيبص أن ما كان مطروحاً في البداية هو تسوية أوضاع التعديات على الأملاك العامة البحرية من خلال تسديد بدلات الإشغال السابقة، ويصبح هناك بدل سنوي يدر سنوياً مدخولاً جيداً للخزينة. لكن الآن في الصيغة المطروحة يريدون استملاك الملك العام، وقوننة المخالفات الحاصلة قبل عام 1994 تعني قوننة أغلبية المخالفات، لأن معظم المنشآت البحرية أقيمت قبل هذا العام، وجزء كبير منها تابع للسياسيين.
انتهاكات السلسلة لا تتوقف هنا، بل تتعدّى المسائل المالية والتسويات لتضرب أسس التشريع في الدولة، فتظهر السلطة بمنظر «المتخبّط»، لكن فعلياً القوى السياسية تعلم جيداً كيف تقوّض الدولة وتُخرج النقاش من الدوائر المؤسساتية لتعطيه طابعاً زبائنياً. يستغرب الوزير السابق زياد بارود ما يجري «لم نعرف ما الذي حصل. أول من أمس تغيّرت أمور كثيرة، من ضمنها استثناء أساتذة المدارس الخاصة من زيادة الست درجات من دون أن نعرف لماذا. في اللحظة الأخيرة وتحت عنوان الحفاظ على التوافق قرروا استثناءهم». نجح النواب في إفراغ الدولة من مؤسساتها، فجرى تغييب المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي كان من المفترض أن يمثل مساحة النقاش الأساسية في قضية سلسلة الرتب والرواتب. يلفت بارود إلى أن هذا التغييب كان مقصوداً من أجل إبقاء القرار بيد القوى السياسية، لتتفق بين بعضها بعضا، وتكرّس نظام المحاصصة. تعامل مجلس النواب مع الموضوع بارتجال إن على مستوى الواردات التي لم تُفهم ماهيتها أم على مستوى التقديمات التي أُعطيت لفئات معينة واستثنت فئات أخرى.
وقاحة التشريع تستمر، إذ تسلّم النواب مشروع القانون بعد ظهر أمس، وبالتالي لديهم أقل من 24 ساعة ليدرسوا قانوناً كاملاً. ينتقد النائب غسان مخيبر الوقت القصير المعطى للنواب كي يطلعوا على التعديلات ويدرسوها ليأخذوا موقفا بشأنها، لافتاً إلى أن هذا الموضوع سيكون موضع نقاش في الجلسة. يتحفظ مخيبر على زيادة الضريبة غير المباشرة لأنه كان من الممكن تأمين مصادر تمويل مختلفة كما يؤكد تحفظه على تشريع التعديات على الأملاك البحرية. قد يكون مخيبر أكثر المطلعين على ما يتضمنه المشروع، لكن المعطيات تشير إلى أنه غداً سنشاهد مهزلة نواب يشرعون قانونا ذا أهمية عالية، من دون أن يأخذوا يوما واحدا لدراسته.