يلتقط مقبل، ابن السنوات الست، هاتف والدته الخلوي ويبحث عن صورة والده. يقبّل شاشة الهاتف. ينظر إلى أمه ويسألها: «أيمتى رح يجي البابا؟». تذرف الأم دمعتها وتردف: «إشتقتلو إنت للبابا». غادر خالد منزله ملتحقاً بمركز خدمته في عرسال، في الليلة التي بدأت فيها الاشتباكات مع المسلحين، مودعاً والدته وزوجته وأخته. تقول والدته: «كان قلبو حاسو إنو في شي مانو طبيعي. قلي لا تخافي لو شو ما صار، رح ضل إحكي معك أنا. ولما مشي ضلت مرتو تحكي معو لحتى انقطع الاتصال على الآخر».
كسواها، عرفت عائلة خالد أنه في عداد الأسرى عبر وسائل الإعلام التي بثت مقاطع فيديو تظهر العسكريين المحتجزين لدى «داعش» و«جبهة النصرة». منذ ذلك الحين لم تتوقف والدته عن البكاء والصلاة. يواسيها أبناء بلدتها، وتزورها نساء الحيّ حاملات معهن ما تيّسر، فهن يعرفن «البير وغطاه». تقول إحدى جاراتها: «أبو خالد توفي من زمان، وصار كل اتكال العيلة على خالد. هو المعيل الوحيد». تصرخ أم خالد: «لما رحت شفتو لقائد الجيش قلتلو إني مستعدة إعمل يلي بدو ياه.

تهدّد العائلات باللجوء إلى
قطع الطرقات في حال استمرار اعتقال أبنائها
بطلع من فنيدق على عرسال مشي على كعاب إجريّ بس يفكو أسر ولدي». أما زوجته، فلا تجد أجوبة شافية عن أسئلتها. تقول «أنا ما عم بفهم ليش عم يصير كل هل شي. ليش صارت حرب عرسال؟ وليش أسرو الجيش؟ وليش الدولة وقائد الجيش ما عم يتحركوا؟ إذا الإرهابيين مزعوجين من حزب الله لأنو فات على سوريا شو خص الجيش اللبناني؟ والله رح جن! بدي خالد يرجع حتى يحكيلي ليش عم يورطونا نحنا بكل هيدا الشي؟».

حسين عمار

في الطرف الآخر من البلدة، حكاية مشابهة. أسرة أخرى فارقت الابتسامة شفاه أبنائها، بعدما أُسر ابنها العسكري حسين عمار. إخوته السبعة يسمرون أعينهم على التلفاز. ينقلون من محطة إلى أخرى. لاهثين وراء الخبر العاجل الذي قد يثلج قلوبهم. بينما تشرد والدتهم في هموم الدنيا وحيدة. يشعر أطفالها بأنها تغيرت كثيراً من لحظة الإعلان عن اختطاف حسين. أصبحت السيدة الأربعينية السمراء قليلة الكلام والحركة والأكل. تحمل صورة حسين بين يديها وتبكي. تقول: «إبني قلي من زمان إنو الجيش هيكل على الأرض بعرسال. قلي إنو نحنا يا ماما ما فينا نوقف مسلح ماشي على الطريق. ولا فينا نقول لشخص غريب من وين إنت. إبني خبرني كتير أشيا. أنا الخاطية لأن ما ترّكتو سلك الدولة من زمان. هو كان عم يحكيلي حتى شجعو وقلو إترك الجيش يا ماما». وتضيف: «أنا ما عاد فيني استحمل أكثر. يلي إيدو بالنار مانو متل الإيدو بالتلج. السياسيون ولادن بيتنقلوا من بلد لبلد، ونحنا ولادنا بيتنقلوا من عصابة لعصابة. هني بيسهروا وبينبسطوا ونحنا ولادنا ما عم يدوقوا النوم ولا منعرف إذا طيبين. أريد أن أنصب خيمة قبالة السرايا الحكومية وأنام فيها، سأرشق النواب والوزراء بالحجارة، وسأضرب عن الطعام إلى أن يفرجوا عن ابني».

علي السيد

الغضب يزداد أكثر مع التقدم نحو منزل العسكري علي السيد في فنيدق. الأم تبكي ابنها «يلي ما طلعلو حظ من هالدولة». في منزله الزوجي تجلس مع زوجته وأقاربه. تعدل طرف حجابها. تجلس بالقرب من «كنتها». وتتحدث عن حسين: «إبني صرلو 11 سنة بالجيش. ولا مرة رفض أي مهمة كلفوه فيها. شارك بحرب مخيم نهر البارد وأصيب فيها. وشارك بمعارك عبرا، وهلق مأسور بعرسال. صرلو بعرسال ستة أشهر، ومن وقت ما نقلو حاسسني قلبي بدو يصير شي مع هالصبي. والدولة ما عم تبردلنا قلبنا أبداً. عم يخلونا نصدق كل شي بيطلع من التلفزيون». أما زوجته الشابة، فتحاول ضبط دموعها. تتكلم بلهجة حادة، ويرتفع صوتها ليبلغ حد الصراخ: لماذا استثنانا قائد الجيش من الاجتماع الذي عقده لكل أهالي العسكريين المخطوفين؟ ألا يحق لي أن أسأل هذا السؤال لدولتنا الكريمة؟ لماذا اتصلوا بنا من وزارة الدفاع وأبلغونا أن الاجتماع أُلغي. لنصدم في اليوم التالي، بذهاب كل أبناء فنيدق والقرى العكارية المجاورة إلا نحن. هل صدقت القيادة الفيديو الذي يظهر فيه علي مع العنصر من الجيش اللبناني عبد الرحمن دياب، وهما يعلنان انشقاقهما عن الجيش؟». تتابع «إذا كان هيدا السبب حتى نعرف إنو الدولة تخلت عن علي، خلينا نحنا نردو على طريقتنا».
عتب آل السيد كبير على المؤسسة العسكرية، تقول والدته «القيادة تغض النظر عنا، ونحن نطالبها بتفسير لما يحصل». وتشير إلى أن «لدى عليّ ثلاثة إخوة في الجيش. هم خالد (الفوج السادس)، محمد (الفوج الثالث)، ومحمود (المكافحة)، لذا مستحيل أن يعلن ابني انشقاقه عن الجيش بهذه البساطة. نحنا دم ولادنا كلو فدا الجيش». تضيف بأسى: «لا نعلم إلى من نلجأ لنعرف ولو القليل عن حال علي». أولاد العائلة، رجالها ونساؤها وشيوخها يهددون بالتصعيد، ويلوحون باللجوء إلى قطع الطرقات وإحراق الإطارات المشتعلة في حال استمرار اعتقال العسكريين.