عندما انطلقت «الثورة»، ربما كان أبرز همّ لدى «الثائرين» الحصول على السلاح وزيادة عديد المقاتلين لمواجهة «كتائب القذافي». وجدوا ضالتهم في غياهب سجون القذافي، ففتحوها ووجدوا فيها ما يكفي من «المقاتلين الإسلاميين» الجاهزين للقتال.
كل طرف له دوره، سواء في المعركة أو في السياسة؛ فـ«الإخوان المسلمون» أو «جماعة المقاتلة الليبية» أو «تنظيم أنصار الشريعة»، لم يكونوا ليلقوا السلاح بعد الإجهاز على القذافي. فقطر ومعها الحليف التركي، اللذان مدّا تلك التنظيمات بالسلاح وبالمال، يدركان أن المرحلة الأهم هي ما بعد القذافي، وأن الثمار اللذيذة لا تقطف إلا بعد نضجها. كان لهما ما أرادا بسيطرة الإسلاميين على المؤتمر الوطني العام المنتخب في تموز عام 2012، بعدما حولوا أقليتهم أمام تيار محمود جبريل إلى أكثرية. فالعديد من النواب المستقلين كانوا في الأساس يضمرون التأييد لـ«الإخوان» منذ ترشحهم.

مصر حليف
السعودية تستشعر بخطر المتشدين

سيطر الإسلاميون على البلاد، والميليشيات التابعة لهم جرت تغطيتها بمسميات رسمية تحت إمرة عبد الحكيم بلحاج، القيادي السابق في «جماعة المقاتلة» المشكلة من عائدين من القتال في أفغانستان والمقربة جداً من قطر وتركيا. السعودية لم تكن لتقبل بهذا التمدد للجار الصغير في شمال أفريقيا. لا يمكنها أن تقبل بالإخوان المسلمين، العدو اللدود لها، وبالسيطرة على دولة نفطية غنية كليبيا، لا بد من إعادة خلط الأوراق من جديد. بدأت الرياض وحليفتها الإمارات مدّ مسلحي الزنتان بالسلاح والمال، القوات التي سيطرت بشكل متفاوت على مطار طرابلس. اللواء خليفة حفتر هو أيضاً جاهز للعب دور في ليبيا، لا بل كان ينتظر أي فرصة تعيد له اعتباره بعدما أحيل على التقاعد قسراً من قبل قيادة الجيش الجديد. جمع حفتر في طبرق، المدينة الحدودية مع مصر، ضباطاً وجنوداً سابقين، فرض سيطرته بداية على مدينته التي تحوي على مطار عسكري ومروحيات ومقاتلات قديمة.
من جهته، ازداد نفوذ «تنظيم أنصار الشريعة» في الشرق الليبي، فيما كانت مصر، حليف السعودية، تستشعر بخطر المتشددين عند حدودها الغربية.
القلوب تمتلئ قيحاً لدى الطرفين، ولا حاجة إلى ذريعة لإشعال فتيل معركة مهيّأة الأجواء لانطلاقها. يتحرك حفتر بداية لمحاربة «أنصار الشريعة» في بنغازي، يوجه الضربات لقواعدها عبر مروحياته العسكرية، يتحرك الشارع معه في الشرق الليبي، وتصل أصداء «معركة الكرامة» التي أطلقها إلى الغرب، فالفلتان الأمني. ليس لحفتر ذلك الثقل العسكري في طرابلس، لكن حلفاءه من «التيار المدني»، ولا سيما «الزنتان»، أصابعهم على الزناد ينتظرون هذه المعركة.
يتراجع الإسلاميون تحت ضغط حفتر و«الزنتان» وزخم المؤيدين «للكرامة». يطالب حفتر بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات تشريعية في أسرع وقت. يسقط في الأولى وينجح في الثانية. يفوز، في شهر تموز الماضي، «التيار المدني» المؤيد لمحمود جبريل وحفتر، ويحقق انتصاراً كاسحاً. لكن ذلك لا يكفي أمام التيارات الإسلامية صاحبة النفوذ العسكري القوي. تلتهب طرابلس، ويدخل الصراع إلى كل شارع ومنطقة، يدمر مطار طرابلس التي كانت بيد الزنتان. يحكى هنا أن هذا الأذى والدمار مقصودان؛ فعقد إعادة بناء المطار وشراء طائراته تم توقيعه في واشنطن مسبقاً.
الإسلاميون بلا شك هم الأكثر عديداً وتنظيماً، وتيار «حفتر ــ الزنتان» رغم قوته لن يصمد أمام الإسلاميين. تقول المصادر إن مسلحين كانوا في وضع حرج جداً في مواجهة جنود عبد الحكيم بلحاج وقائد المعركة الحالية «المصراتي» صلاح بادي. فما كان من إحدى القوى الإقليمية إلا التدخل المباشر، وهي التي نفذت الغارات الجوية «المجهولة» على طرابلس.
ولإعادة التوازن على الأرض أيضاً، تجري اتصالات بين الزنتان وأنصار القذافي المشتتين في أوروبا ودول الجوار. يطلب القذافيون العودة برايتهم الخضراء وإطلاق سراح سجنائهم، بمن فيهم سيف الإسلام القذافي. توافق الزنتان على هذه الشروط، لكنها ترفض الإفراج عن سيف الإسلام، فإخراجه إلى النور سيقلب الرأي العام الليبي ضدهم. وبالفعل يخرج العديد من السجناء القذافيين وينضمون إلى الزنتان على جبهات القتال. ويعود آخرون إلى البلاد تحت جناح الزنتان. لم يعد هذا الأمر معيباً أو تهمة ثقيلة على «الزناتنة» وعلى حلفائها، فـ«الثورة» الحقيقية انطلقت الآن وعفا الله عما مضى.في ليبيا تلعب القبيلة الدور المحوري على الأرض. يعي الطرفان ذلك جيداً. لا يمكن لأي منهما الفوز على الآخر من دون الإمساك بعصا القبائل. الإسلاميون جعلوا من مصراتة ثقلهم البشري والعسكري والمادي، دورها في ليبيا أساسي كيفما دارت الأمور. فهي القريبة من بنغازي وطرابلس، ولها ميناؤها ومطارها. والزاوية التي يعبر اسمها عن هويتها، يجد أعيانها أنفسهم على الضفة نفسها مع الإسلاميين.
أما «الزنتان» فيتّكلون على حلفهم التاريخي مع ورفله، إحدى أكبر القبائل الليبية التي تمتد من شرق البلاد إلى غربها، ولديهم ثأر ليس بقديم مع مصراتة التي فعلت فعلتها بهم أثناء «الثورة» على القذافي في بني وليد. «التراهنة» أقرب إلى الزنتان من مصراته، ويبدو أنهم دخلوا هذا الحلف في مواجهة الإسلاميين.
«ورشفانة» التي تصنف كأكبر القبائل الليبية، تقول المصادر إن أهم أعيانها باتوا على حلف مع جبريل والزنتان من تحت الطاولة. ربما لم يحن الموعد بعد للإعلان الرسمي عن هذا التحالف.
يجمع الليبيون على أن «ثورة 17 فبراير» انتهت وباتت من الماضي. في إحدى خطابات القذافي إبان «الثورة»، قال «سأحول ليبيا إلى جمر.. إلى نار»، كأنه كان يعلم أن البلاد من بعده ستغرق في جحيم حرب أهلية يصعب فك شيفرتها. ليبيا الآن في ظلام دامس إلى أجل غير مسمى... وكل يوم سنسمع بخبر جديد يأتي من ليبيا.