رام الله | يبدو أنه صار من الملح طرح مجموعة من الأسئلة كان واقع الحرب يفرض تأجيلها، لكن لا بد من النظر إلى ما يجري في القاهرة وفهم لمصلحة من جرى التغيير الذي طرأ على موقف مصر وجعلها تتنازل عن شرط مبادرتها ثم تبنيها مبادرة فلسطينية موحدة، كما يجب التساؤل عن الإصرار المصري على ضرورة أن يكون الوفد الفلسطيني المفاوض موحدا، وأن يضم السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى جانب حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بغض النظر عن التحاق اليسار بالوفد. أيضا السؤال الثالث: لمصلحة من ستكون نتائج المفاوضات في حال نجاحها، وهل لوجود وفد فلسطيني موحد تأثير خاص على النتائج المرجوة؟

كلنا نعرف أن المبادرة المصرية التي طرحت في الأيام الأولى من العدوان كانت تميل إلى الجانب الإسرائيلي، وهي طرحت بطريقة عنجهية بل كانت فوقية، فلم تبلغ بها قيادات المقاومة رسميا بل عبر وسائل الإعلام، كما أصرت مصر على أن هذه مبادرة غير قابلة للتعديل.
مقابل ذلك، رفضت غزة هذا الطرح، لكن رئيس السلطة محمود عباس وافق عليه مباشرة، بل تبنى الخطاب المصري نفسه وطار إلى القاهرة واتصل بالمحور القطري ـ التركي للضغط على «حماس» حتى تقبله.
أما إسرائيل، فصمتت وكلها يقين بأن المبادرة سترفض في غزة ما يسمح لها أكثر بحرق القطاع وإنهاك المقاومة قدر المستطاع. كل هذه المواقف بنيت وعبر عنها خلال الأيام العشرة الأولى من الحرب حتى جاءت نهاية الأسبوع الثاني، حينما تيقنت هذه الأطراف (مصر وإسرائيل وعباس ) أن قدرات المقاومة هذه المرة لا تشبه على الإطلاق ما جرى عام 2012، وأدركت أن المعادلة لن تكون تدميرا وخرابا وقتل مدنيين مقابل صواريخ محدودة المدى وتصد بري متواضع، بل وصلت هذه الصواريخ إلى أقصى فلسطين المحتلة مع عمليات غير مسبوقة في مواقع الجيش الاسرائيلي، وقدرة على إيقاع خسائر كبيرة في صفوفه، كما حافظت المقاومة، بعد أسبوعين من القصف المكثف، على قدرتها على إطلاق الصواريخ كما ونوعا.

المقاومة ستحقق معظم مطالبها لكن السلطة ستعود إلى تصدر المشهد


إذن ماذا حدث؟ أولا أدركت تل أبيب أنها في مأزق، والقاهرة أيقنت أن مبادرتها ماتت، والأهم أن صورتها صارت قبيحة جدا بسبب تعنتها. أما عباس، فذاب في المشهد السياسي، وواجه انتقادات شعبية لم يقابلها منذ وصوله إلى رأس السلطة عام 2005، حتى أصبح كل تصريح يدلي به يقابل بالاستهزاء، ومن داخل حركة «فتح» أحيانا، إلى أن توقف عن الكلام والتزم الصمت لأيام.
وعلى المستوى الشعبي، وقف الفلسطينيون خلف المقاومة والميدان الغزاوي، وبرغم أن الضفة المحتلة لم تتحرك كما يجب لأنها تعيش تحت تخدير السلام الاقتصادي، فإنها أعلنت إيمانها بنهج المقاومة.
عند هذه اللحظة، كان لا بد للطرف الآخر أن يغير مواقفه قبل أن ينهار المشهد بالكامل. وأهم ما أخاف الثلاثي المصري الإسرائيلي ورام الله، هو أن تعود ثقافة الرفض والمقاومة لتسيطر على عقول وقلوب الناس، وخاصة في الضفة.
حتى «حماس» بات لا يخفى أن في داخلها تيارا قابلا للمساومة والمهادنة (يمثله خالد مشعل الغارق في لعبة المحاور الإقليمية)، وأيضا تيارا صلبا تمثله كتائب القسام وقيادات في الداخل أصبحت الكفة تميل لمصلحتها. هذا ما يعني أن مشعل قد يطير مع غبار المعركة حين تهدأ لتأخذ مكانه قيادات ترفض المساومة وتميل أكثر إلى المحور الإيراني. إذا حدث ذلك، في ظل وجود «الجهاد الاسلامي» الصلب أصلا وفصلا وتاريخيا، فكيف سيكون مستقبل المشهد السياسي الفلسطيني؟
لا شك أن الخاسر الأكبر في هذه الحالة سيكون محمود عباس ومشروعه السياسي المتمثل في أوسلو، وذلك أمام خطاب مقاوم يحظى بتأييد شعبي جارف بعدما أثبت صدقيته.
تأسيسا على ذلك، يمكن فهم ما جرى نهاية الأسبوع الثالث من العدوان. فقد بدأت المواقف والخطابات تتغير بسرعة، وقبلت مصر حضور قيادات المقاومة وبحث مطالبها بعيدا عن مبادرتها الأولى «غير القابلة للمناقشة». أما عباس وعدد كبير من قيادات السلطة، فصار خطابهم مقاوما أكثر من المقاومين، وأمطرونا بتصريحات نارية ذكرتنا بزمن منظمة التحرير الجميل!
هذه التغييرات في المواقف، وإن كانت بفعل الميدان في غزة، فهي لا تعني أن أصحابها خسروا المبادرة بالكامل، وباتوا خاضعين للمقاومة تماما، بل هم يحاولون الالتفاف على خسارتهم المتوقعة، والسر يكمن في إصرار مصر على أن يكون الوفد الفلسطيني موحدا ليضمن من حضور المنظمة والسلطة (على خلاف اتفاق 2012) ألا تكون المكاسب وقفا على المقاومة، فليس هناك ما هو أكثر إثارة للضحك المميت للقلب من صورة قيس أبو ليلى وبسام الصالحي ضمن هذا الوفد.
يمكن أن توافق إسرائيل على رفع الحصار عن غزة ضمن آليات معينة، وهو المطلب الأهم للمقاومة، إضافة إلى موافقتها على مطالب تفصيلية أخرى، لأنه ليس أمامها خيار آخر، لكن بعد ذلك، فإن أهمية مشاركة عباس في النتائج التي ستنتهي إليها هذه المفاوضات تكمن في أنه من سيعود ليتصدر المشهد السياسي، بعدما اختفى منه خلال الأسبوع الثالث، وكل الإجراءات والاتفاقات السياسية الأخرى لا بد أن تكون عبر السلطة وحكومة التوافق التي كانت غائبة تماما وبلا قيمة أو أهمية تذكر طوال أيام العدوان.
ربما من المنطقي أن تنجز هذه الإجراءات عبر مؤسسات محددة، ولكن سياسيا هذا يعني أن اتفاق «أوسلو»، الذي كان مهددا بالموت، اكتسب عمرا جديدا باتفاق القاهرة، وعباس، بعدما وجد نفسه في الزاوية هو ومشروعه الذي تقزم أمام إنجازات الميدان في غزة، سيعود فجأة ليصبح الشخصية المحورية، التي لا بد أن تمر عبرها كل الأمور.
لا شك أن المقاومة ستحقق معظم مطالبها، وسيرفع الحصار عن غزة بطريقة أو أخرى، لكن السلطة ستعود إلى تصدر المشهد، ويبقى الخوف من أن تبقى المقاومة محصورة في غزة، و«مشروع أوسلو» متمددا، على طول وعرض الضفة والقطاع. هنا الخوف من أن تكون المقاومة قد أنجزت مكسبا آنيا بكسر الحصار، لكن عباس كسب استراتيجيا بالمحافظة على مشروعه وعلى سقف «أوسلو»، وهنا يمكن فهم السر في إصرار مصر على وفد فلسطيني موحد، ورفضها إجراء مفاوضات مع ممثلي المقاومة وحدهم. هكذا أعادوا إحياء محمود عباس، وربما حافظوا على خالد مشعل من سقوط مستقبلي.