غزة | وقفت شامخة، فتكرر استهدافها. لم تتأثر بالصاروخ الأول فلحقه الثاني، لكنها لم تنهر. استهدفت بصاروخ ثالث فمالت على المنزل المجاور لها. إنها مئذنة مسجد «السوسي» في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. لم يبق من هذا المسجد سوى المئذنة التي عانقت أحد بيوت الحي، فقد أتت عليه مقاتلات العدو ودمرته على غرار عدد كبير من المساجد في مناطق متفرقة من قطاع غزة، ضمن العدوان المستمر منذ نحو شهر.
سبق هذا المشهد بقاء مئذنة مسجد «الفاروق» في حي الشابورة في رفح، وأيضاً مئذنة مسجد «المحكمة» في حي الشجاعية شرق غزة. بقيتا واقفتين رغم الاستهداف، كأن تكرار المشهد في أكثر من حي يوحي بصمود ناسه ومقاومته.
تنهمر دموع المسن السبعيني أبو محمد الحلبي كلما توجه إلى الصلاة في مكان قريب من المسجد (السوسي) المدمر؛ فمنذ ثلاثين عاماً هو يؤدي الصلاة فيه. يتساءل بانفعال: «ما الذنب الذي اقترفه المسجد كي يدمر؟»، لكنه يرى في الوقت نفسه أن الغرض من استهداف المساجد والمنشآت المدنية ضرب الروح المعنوية للفلسطينيين وتكثيف الحصار. على عكس ذلك، يرى المسن أن ما يفعله الاحتلال يعبّر عن روح يأس «ودليل عجز وهستيريا المهزوم» بعدما فوجئ بقوة المقاومة التي كبّدته خسائر كبيرة.
حتى إنه لا يبالغ، من وجهة نظره، حينما يتمنى تدمير كل منازل الحي مقابل بقاء المساجد، لأنّ « المسجد هو بيت الله وحق عام لكل سكان الحي، كما انه يحتضن أفراحنا وأتراحنا، ونلجأ فيه إلى الله خلال كل الظروف الصعبة».
قصف الاحتلال 161 مسجداً ودمّر منها
41 بصورة كلية

وتعكس مشاعر رواد المساجد المدمرة مدى تعلق سكان غزة ببيوت الله، ليس لكونها أماكن للعبادة فحسب، بل هي منبع لعدد من الخدمات الأخرى المتعلقة بالتكافل ومساعدة المحتاجين وتوفير المياه الصالحة للشرب، كما ان الحالة الاجتماعية الفلسطينية تتشكل من داخل المساجد، إضافة إلى كونها منبر الخطب الحماسية التي تدعو الناس إلى الصمود والثبات.
ويؤكد هذا المعنى ما ذهب إليه إمام «الفاروق» يوسف أبو عمرة، إذ يقول لـ«الأخبار»: «لاحظت أن سكان الحي هرعوا بعد قصف المسجد إلى الصلاة بجواره على الأرض، وبدأوا تنظيف أحد أركانه من الركام من أجل العودة إلى الصلاة فيه، وهذا يدل على أن مكانة المسجد لا تقل عن مكانة منازلهم». ويرى أبو عمرة أن الاحتلال يريد من تدمير المساجد التضييق على الناس «حتى تبقى صورة الدمار والخراب ترافقهم في جنبات حياتهم، ما يدفعهم كما يظن إلى نبذ المقاومة والمقاومين».
وتضمن العدوان الإسرائيلي على غزة تدمير مساجد أثرية في مناطق مختلفة عمرت لمئات السنين، وأهمها مسجد «المحكمة البردبكية» الذي صدحت مئذنته بالأذان لنحو 600 عام، ومسجد «الإصلاح» الذي شيّد قبل سنوات طويلة. وهناك بعض المساجد كانت قد قصفت في الحرب الأولى عام 2008 ثم أعيد إعمارها، لكن العدو عاود قصفها مرة ثانية في حرب 2012، ليعاد إعمارها لاحقاً، ثم قصفها في هذه الحرب.
ويدّعي الاحتلال أنّ هذه المساجد هي أمكنة تجمّع لعناصر حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي»، كما يرى أن التعبئة الدينية داخلها هي السبب وراء العقيدة التي يقاتلهم بها المقاومون اليوم. وسوّقت قوات الاحتلال كعادتها تدمير المساجد بالصواريخ الثقيلة ضمن حملات دعائية مسبقة وصور مفبركة، لكن معاينة الآثار الناتجة من عمليات تدمير المساجد وشهادات شهود العيان تؤكد أن الادعاءات الإسرائيلية غير صحيحة، وأن استباحة المساجد في قطاع غزة جزء من الحرب على عقيدة الناس هنا. ويجد المحاضر في جامعة الأقصى في غزة، عبد اللطيف ريان، أن العدو يقصف المساجد «لأنها مصانع الرجال ومدارس المجاهدين»، وهو ما يذهب إليه وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة، حسن الصيفي، الذي يقول لـ«الأخبار» إنّ استهداف دور العبادة «محاربة للدين الإسلامي ومحاولة لطمسه ومحو تاريخ شعبنا وتراثه».
ويضيف الصيفي أنّ «تدمير الجوامع ودور العبادة انتهاك صارخ لحرمة المقدسات الدينية والقوانين الدولية التي تكفل حمايتها وتجرم التعرض لها»، شارحاً أن العدد الإجمالي لاستهداف المساجد منذ بدء الهجوم هو 161 مسجداً دُمّر 41 منها كلياً.
ويبيّن في الوقت نفسه أن قصف المساجد وفيها مصلون تكرر أكثر من عشر مرات خلال الحرب، ضمن المجازر التي استهدفت المدنيين بصورة مباشرة. لذلك يؤكد المتحدث باسم حركة «حماس» فوزي برهوم أنّ استهداف المدنيين في مدارسهم وجامعاتهم ومساجدهم، وهذا الحجم الكبير من الضحايا، «يكشفان كذب ادعاءات العدو بأن المستهدف هو حماس فقط»، مختتماً لـ«الأخبار»: «عدونا يستهدف أهل غزة جميعاً بكل مقدرات حياتهم».