غزة | لا يزال الوفد الإسرائيلي بعيداً عن القاهرة، فيما الوفد الفلسطيني يجري مباحثاته مع الوسيط المصري، وهي خطوة تريد بها إسرائيل أن تقول إنها تنوي إنهاء الحرب كما تشاء، أي بطريقتها هي، كما أوحت بذلك عبر ما نقلته الصحافة العبرية طوال أسبوع مضى، فضلاً عن الخطوة الميدانية أمس بسحب بعض قواتها من عدة مناطق في قطاع غزة إلى السياج الحدودي، وهو ما سماه رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه، موشيه يعالون، قبل يومين «إعادة انتشار».
حتى لا تبدو الخطوة الإسرائيلية مفاجئة، فإن كل الوقائع على الأرض كانت تقول إن الانسحاب ضرورة ميدانية سوف تحدث، لكن ليس للسبب الذي تقوله إسرائيل بشأن إنهاء مهمتها في هدم الأنفاق، بل بحكم النزف غير المسبوق في جنودها بعد المواجهات البطولية التي خاضتها المقاومة وأوقعت في صفوف الجيش الإسرائيلية خسائر لم يتكبدها في المعارك العربية الإسرائيلية الكبرى، أو بالتحديد منذ عام 2006 أيام الحرب مع لبنان.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: مَن من الطرفين كان أقرب إلى تحقيق أهدافه؟ لقد أعلنت إسرائيل قبل الحرب أنها تنوي أن تحطم قوة المقاومة، وتعلمها درساً لن تنساه، في قوة جيش قيل يوماً إنه لا يُقهر. أما المقاومة، فلم تكن هي من اختار هذه الحرب، وإن كانت مستعدة لها منذ زمن بعيد. ولما وقعت الحرب، أعلنت أنها لن تدع العدو يفلت هذه المرة بعدوانه، بل ستلقنه درساً يجعله يفكر مرات قبل أن يقرر عدواناً جديداً في مرة قادمة. وهكذا تدحرجت الأهداف الإسرائيلية كالعادة.

على الخاسر دفع الثمن، وهذا ما تحاول إسرائيل التهرب منه

دعونا نتفحص أي الطرفين كان أقرب إلى تحقيق أهدافه. لقد رأى العالم كله كيف تمرغت كرامة الجيش الذي لا يقهر في تراب غزة؛ فالوحدات المختارة خسرت كثيراً من جنودها وضباطها في المعركة، كذلك أعلنت فقد اثنين من أفرادها، ولم يتحدث أحد حتى الآن في أنهم داخلون في شروط التفاوض. تنسحب إسرائيل، مبدئياً، وقد فقدت «أسيرين» يؤذنان بحرب داخلية في المجتمع العبري، ومن أهم نقاط ضعف عقيدته (ضرورة استعادة الأبناء إلى الوطن) مهما كان الثمن، وهم كانوا حتى وقت قريب يناقشون كيفية منع عمليات التبادل. لذا يبدو حتى الآن أن الثمن الذي ستتقاضاه المقاومة، سوف يكون مرتفعاً، وحين يدفعه نتنياهو سوف يخسر منصبه.
يبدو أن غزة لعنة على كل من حاول من حكام إسرائيل مهاجمتها. فما هاجمها أحد إلا سقط عن كرسيه. وهذا ما يدركه نتنياهو ويحاول تأجيل حدوثه. ورغم كل ما تعلنه تل أبيب بشان الامتناع عن التفاوض في وقف النار، فإن التفاوض قادم لا محالة، لأن غزة لن تترك إسرائيل تنعم بلحظة هدوء، خصوصاً بعد أن اكتشفت، من جديد، أنها قادرة على ذلك. لقد جاءت إسرائيل إلى غزة لمنع إطلاق الصواريخ، ومنع (المتسللين) من الوصول إلى مواقعها التي ظنت يوماً أنها حصينة. فهل حققت ذلك؟ وهل ستستطيع بانسحابها الحادي أن تمنع تكرار ذلك على أيدي رجال اكتشفوا هشاشتها؟ الواقع في غزة يقول غير ذلك حتماً.
ستنسحب إسرائيل، وستعود الصواريخ تمطرها، وسيعود المقاومون إلى اقتحام حدودها وزرع الرعب في صفوف جنودها، وليس أفضل من استفزازها بالإنزالات لتؤكد المقاومة أنها لا تزال تحتفظ بمخزون من الأنفاق كما مخزونها الصاروخي. وبذلك لن تجد إسرائيل مفراً من الذهاب إلى أحد خيارين: إما العودة إلى وحل غزة، وإما التفاوض على كسر الحصار وتحرير القطاع من الارتهان لمعبر رفح ببناء ميناء حر يربطها بالعالم بعيداً عن مؤامرات السياسة المصرية.
كذلك يمكن المقاومة التي صارت أشبه بـ«فيتنام إسرائيل» تركيز قصفها بأسلحة معينة كالهاون الثقيل وصواريخ الـ107 على الحشود العسكرية القريبة لإيقاع خسائر في صفوفها، وأيضاً لا تزال رفح (جنوب) منطقة عمليات للجيش الإسرائيلي، وإن كانت معزولة نوعاً ما، فإنها قد تشهد عمليات بطولية أخرى.
سوف تكون المقاومة خاسرة بالتأكيد، لو قبلت العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل العدوان. وسوف تكون إسرائيل خاسرة إذا قبلت التفاوض وكسر الحصار وتلبية أهم شروط المقاومة. واللعبة الآن هي العودة إلى العض على الأصابع، كما كان عليه الحال في بداية الحرب.
لقد خسرت إسرائيل في لعبة الحرب. والواقع الاستراتيجي يقول إن على الخاسر أن يدفع الثمن. وهذا ما تحاول إسرائيل التهرب منه، ولو بمساعدة الجنرال التائه في القاهرة. يقول الصحافي الإسرائيلي الشهير والخبير في شؤون غزة، يهودا يعاري، إن قرار الانسحاب الأحادي الجانب يهدف إلى منع المقاومة من تحقيق أي من مطالبها التي أعلنتها سابقاً للتهدئة.
إذن، فالقرار بالانسحاب هو «هرب إلى الأمام». ولو كان العدو قادراً على تحقيق أهدافه بتدمير روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني ما انسحب، لذلك ما من شك أن انسحابه هو خوف من دفع الثمن. وخوف أيضاً من مقاومة قادرة على تدفيعه أضعاف الثمن كلما كان جنوده قريبين، وبناءً عليه فإنّ من الجنون على القيادة الإسرائيلية محاولة تصوير انسحابها على أنه نصر.
هربت إسرائيل من مواجهة عسكرية لم تحقق فيها أهدافها السياسية، حين بدا لها أن أهداف المقاومة قد باتت وشيكة التحقق. ودليل هذا الرأي العام الدولي الذي، رغم تعاطفه مع إسرائيل، صار يكرر كل مرة أنه يجب البحث في الأسباب العميقة لهذه الحرب. حتى وزير خارجية أميركا، جون كيري، صار يتحدث عن حق الشعب في غزة في أن يُرفع عنه الحصار ضمن أي صفقة سياسية قريبة.
رغم ذلك، يجب الانتباه إلى أي خديعة إسرائيلية بشأن إعادة الانتشار أو التموضع، لكن يمكننا القول في حال استمرار هذه الخطوة ولم تعد القوات إلى الأماكن التي خرجت منها، فإن إسرائيل اليوم خرجت من حدود غزة وقد فقدت مئات من جنودها قتلى وجرحى وخلفت وراءها مفقودين اثنين، تاركة شعباً يشعر بحلاوة النصر حتى بين المجازر والخرائب التي صنعتها.