رام الله | بعد 9 أيّام من الحصار الخانق على مخيّم عقبة جبر في مدينة أريحا، اقتحمت قوّات العدو الإسرائيلي المخيّم، وتمكّنت من اغتيال خمسة مقاومين من «كتائب القسّام»، من بينهم منفّذ عملية «ألموغ» التي أعقبت عملية الشهيد خيري علقم، ولم يُكتب لها النجاح. وعلى الرغم من أن الاحتلال استطاع القضاء على النواة الأولى لـ«كتيبة أريحا» حديثة الولادة، إلّا أن ذلك لن يعفيه، على ما يبدو، من صُداع دائم سيصله من هذه المنطقة التي عاشت هدوءاً لسنوات طويلة، وانضمّت أخيراً إلى حلقة الاشتباك والمقاومة في الضفة الغربية المحتلّة. حلقةٌ يَظهر واضحاً أنها لا تفتأ تتوسّع، على رغم كثافة الإجراءات والحملات الإسرائيلية، والتي تُقارب «درّتها» المسمّاة «كاسر الأمواج» إنهاء عامها الأوّل، من دون أن تُحقّق لتل أبيب ما أرادتْه تماماً
انفتحت، في خلال الأيّام الماضية، جبهة جديدة في الاشتباك المشتعل والممتدّ في الضفة الغربية بين المقاومين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، لا يبدو، وفق المعطيات، أنها ستَخمد سريعاً، وهي التي ارتوت أمس بدماء 5 مقاومين خاضوا معركة في مدينة أريحا، قبل أن يقضوا نحْبهم ويحتجز جيش العدو جثامينهم. ومثّل دخول المدينة على خطّ الاشتباك، من خلال «كتيبة مخيم عقبة جبر» أو «كتيبة أريحا»، علامة فارقة ومهمّة، دقّت جرس القلق لدى المنظومة الأمنية الإسرائيلية من اتّساع رقعة النار لتشمل منطقة كانت عاشت هدوءاً نسبياً خلال السنوات الطويلة الماضية، وحتى خلال الانتفاضة الثانية مقارنةً ببقيّة المدن. وتوّجت المجموعة الناشئة ظهورها باشتباك مسلّح مع قوّات الاحتلال التي حاصرت المخيّم واقتحمتْه في محاولة للنيل من المقاومين، قبل أن تفشل في ذلك، وفق ما أكدتْه «كتيبة أريحا» في بيان، معلِنةً أن «مُجاهدينا تصدّوا لقوات الاحتلال على أكثر من محور»، حيث «استخدموا العبوات والقنابل المتفجّرة والرصاص، ما أدّى إلى وقوع إصابات محقَّقة» في صفوف جنود العدو. كما تمكّنوا، بحسب البيان، من «إسقاط طائرة مسيّرة استخدمتْها قوات الاحتلال في التصوير». ونعت الكتيبة خمسة من شهدائها، منتمين إلى «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، وهُم: مالك عوني لافي، رأفت وائل عوضات، إبراهيم وائل عوضات، أدهم مجدي عوضات، وثائر خالد عوضات، جازمةً أن «دماء شهدائنا لن تذهب هدراً»، ومُخاطِبةً العدو بالقول إن «ما نعدكم به سيقع، وهذه الأيام بيننا ستثبت لكم أن المقاومة في وادٍ والعدو وأعوانه في وادٍ آخر». وكانت مجموعة «مخيم عقبة جبر» أعلنت، أوّل من أمس، بدء «أيام الغضب» في المدينة، نظراً إلى ما تمرّ به الأخيرة من تضييق وحصار استمرّا لـ9 أيام على التوالي.

لماذا «كتيبة أريحا»؟
في ذروة الاستنفار الأمني الإسرائيلي عقب العملية الفدائية التي نفّذها الشهيد خيري علقم في مدينة القدس المحتلّة، وقَتل فيها 7 مستوطِنين، نفّذ شابّان عملية جريئة وخطيرة بإطلاق نار على مطعم في مفرق «ألموغ» جنوب أريحا، حيث أوْصل السائقُ المنفّذَ إلى المكان، ليطلق الأخير رصاصة واحدة ومن ثمّ ينسحب من جرّاء خلل في سلاحه. وعلى رغم أن العملية، التي لو قُدّر لها أن تنجح لحصدت عشرات القتلى من المستوطنين الذي كان يعجّ بهم المطعم خصوصاً وأن المقاوم اقترب منهم بالفعل، لم يُكتب لها التمام، إلّا أنها أقلقت منظومة الاحتلال الأمنية بشكل كبير، ودفعتْها إلى إعلان حالة التأهّب القصوى، ومن ثمّ البدء بملاحقة المنفّذَين، وفرْض حصار خانق على مدينة أريحا. كذلك، نفّذ جيش العدو عمليات اقتحام شرسة لمخيّم عقبة جبر في محاولة للوصول إلى المقاومين، لكنه فشل في ذلك وسط تصدّي عشرات المشتبكين له، قبل أن يعلن صباح أمس تمكُّنه من اغتيال 5 عناصر من «كتائب القسام»، من بينهم منفّذ الهجوم، وإصابة 3 آخرين بجروح خطيرة، واعتقال العديد من المواطنين.
تتّفق الدوائر الأمنية، الإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية، على أن الأراضي الفلسطينية على شفا انفجار كبير


مع ذلك، لا يبدو أن مخاوف الاحتلال من وجود نواة لمجموعات مقاومة جديدة في أريحا، قادرة على تنفيذ عمليات ضدّ جنوده ومستوطِنيه، على غِرار «عرين الأسود» في نابلس و«كتيبة جنين» في جنين، قد تبدّدت، خصوصاً أن دخول المدينة على خطّ الاشتباك جاء في وقت تُقارب فيه عملية «كاسر الأمواج»، التي علّق عليها العدو آمالاً للقضاء على المقاومين في شمال الضفة، إتمام عامها الأوّل، من دون أن تُحقّق له آماله كما أرادها، بل وحتى من غير أن تكبح نشوء مجموعات جديدة، تشي ولادتها بامتداد الحالة الثورية المقاومة في الضفة. وانطلاقاً من تلك الاعتبارات، وعلى الرغم من فشل عملية «ألموغ»، سارع الاحتلال إلى محاولة القضاء على خلية «عقبة جبر» في مهدها، خشية من استقطابها عناصر جدداً وتوسُّعها، ولا سيما أن أريحا مُحاطة بعدد كبير من المستوطَنات، والشوارع الرئيسة على خطّ البحر الميت وخطّ القدس، وأبرزها «الخطّ 90»، ما يجعل المستوطِنين هدفاً سهلاً لرصاص المقاومين. وتُضاف إلى ما تَقدّم، خشية العدو من تأسيس نواة قادرة على تزويد المشتبكين بالسلاح، من خلال عمليات التهريب التي تزداد وتيرتها من الأردن.

المسار السياسي
تتّفق الدوائر الأمنية، الإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية، على أن الأراضي الفلسطينية على شفا انفجار كبير. ولذا، فقد بذلت أطراف عدّة، خلال الفترة القصيرة الماضية، جهوداً لنزع فتيل الانفجار، إنّما من خلال تكثيف الضغوط على الجانب الفلسطيني ليس إلّا، وهو ما أظْهره سعي واشنطن إلى انتزاع موافقة من سلطة رام الله على خطّة أمنية تقتضي إعداد قوّة من الأجهزة الأمنية لتعقّب المقاومين ومُواجهتهم. وبالتكامل مع تلك الضغوط، تُواصل مصر «وساطتها» لدى حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من أجل حمْلهما على إعادة الهدوء إلى الضفة، وفق ما حملتْه مباحثات مطوّلة أجراها رئيس المخابرات المصرية، عباس كامل، مع قادة «الجهاد»، وستتبعها أخرى مماثلة مع رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية. على أن هنية استبق هذا اللقاء بتأكيده، عقب مجزرة أريحا، أن «تَوالي القتل الذي يمارسه العدو في أرض الضفة سيكون وبالاً عليه، ولن تنجح كلّ التدخلّات الدولية أو الإقليمية في وقف المدّ الثوري لشعبنا، ولن ينعم العدو بالهدوء، والأيام سِجال ما دام في شعبنا عِرق ينبض».
والواقع أن مجزرة أريحا لن تخلو من تداعيات على الواقع الميداني في الضفة وقطاع غزة على السواء. إذ إن الأولى، التي تُظهر مؤشّراتها تمدّد المقاومة فيها جغرافياً وتطوُّر عملها، ستكون محطّ الأنظار في انتظار الردّ على المجزرة، والذي يمكن الجزم بأنه قادم لا محالة، على غِرار ما حدث عقب مجزرة جنين التي لم يتأخّر الردّ عليها، وجاء في القدس وأريحا بالذات. ونظراً إلى عجْز إسرائيل عن توقُّع طبيعة الردّ ومكانه وماهيّته، فإنها ستبقى تعيش الاستنفار الأمني والتأهّب في أعلى درجاتهما، بينما تؤكد حركة «حماس»، على لسان عضو مكتبها السياسي سهيل الهندي، أن «كتائب القسام والمقاومة ستثأر لدماء الشهداء في أريحا، وسيجني الاحتلال الموت الزؤام». كذلك، تدرك إسرائيل أن غزة ليست بعيدة عمّا يجري في الضفة، بل تتوقّع ردّاً - ولو محدوداً - من القطاع (خاصة أن «خلية أريحا» تنتمي بشكل علني إلى كتائب القسام»، وهي التي عاشت، خلال الأيام القليلة الماضية، وسط فوضى أمنية كبيرة في مناطق «الغلاف»، التي شهدت بشكل متكرّر إطلاقاً لصفارات الإنذار ولبعض الصواريخ، وارتباكاً من قِبَل جيش الاحتلال.
بالنتيجة، يُقرّب دخول أريحا على خطّ الاشتباك، من اندلاع المواجهة الشاملة، سواءً في صورة انتفاضة في الضفة أو مواجهة عسكرية مع القطاع، خاصّة إذا ما وُضع إلى جانب معطيات أخرى تُواصل حكومة بنيامين نتنياهو محاولة فرْضها على الأرض، ومنها توسيع عملية الهدم في القدس الشرقية (تَمثّلت أحدث حلقاتها في تعهُّد وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، بهدم بناية من عدّة طبقات في المدينة)، والإعلان عن إقامة مستوطنة جديدة حول غلاف غزة. ويأتي ذلك في وقت يتواصل فيه اشتداد زخم المواجهة في الأراضي المحتلّة مع اقتراب شهر رمضان، الذي سيصادف مرور عام على انطلاق عملية «كاسر الأمواج»، وسط تشاؤم أكبر يبديه جيش الاحتلال بفاعلية هذه الأخيرة. إذ إن خلايا المقاومة في الضفة تتكاثر ولا تتناقص، والعمل الفدائي يتوسّع ويتنوّع، فيما يسهم القتل والإرهاب الإسرائيليان في تأجيج مشاعر الغضب والمطالبة بالردّ. وفي هذا الإطار، تَلفت صحيفة «يسرائيل هيوم»، إلى أن «الحملة العسكرية ستتواصل في عام 2023 مع عدد قتلى أكثر ممّا سُجّل في السنة الأخيرة، التي حطّمت رقماً قياسياً منذ الانتفاضة الثانية، ببلوغ عدد القتلى، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، 224 في مختلف المناطق الفلسطينية؛ 53 منهم في قطاع غزة و 171 في الضفة، وبينهم 53 طفلاً».