بعد يومين من صمت إعلامي ورسمي خرقه تصريح لسفير تل أبيب في الأمم المتحدة، رون بروش أور، وصف فيه الحديث عن خطف أحد الجنود الإسرائيليين بأنه «إشاعات غير حقيقية»، عادت إسرائيل أمس وأقرّت بفقدان أحد جنودها خلال المواجهة الليلية في حي الشجاعية فجر الأحد الماضي.
وأعلن جيش الاحتلال أمس أن الجندي المفقود هو نفسه الذي كانت «كتائب القسام» قد أعلنت أنه موجود في حوزتها، وهو الرقيب شاؤول آرون، ويبلغ من العمر 21 عاماً. وبحسب إعلان الجيش، فإن شاؤول هو أحد سبعة جنود من لواء «غولاني» كانوا في ناقلة جند دخلت حي الشجاعية وتعرضت لصواريخ مضادة للدروع أطلقها مقاتلو المقاومة الفلسطينية، ما أدى إلى احتراق الآلية بالكامل ومقتل كل من كان فيها. وأكد الجيش أمس التعرف على جثث ستة من الجنود «وفي ضوء تعقيد الحادثة، فإن جهود التشخيص والاستيضاح في ما يتعلق بالجندي السابع ستتواصل في كافة القنوات».
وأفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن ضباط الحاخامية العسكرية ووحدة البحث عن المفقودين في شعبة الموارد البشرية في الجيش يبذلون جهوداً حثيثة للعثور على الجندي المفقود، وأن مشاورات تجري حول إمكان تشخيص بقايا أشلاء في داخل الآلية التي قتل فيها الجنود. وقال أقرباء للجندي إن ممثلي الجيش أبلغوا عائلته أن المعطيات التي توافرت تشير إلى أنه في عداد الأموات. لكن عائلة الجندي أعلنت في بيان أنه بالنسبة إليها حيّ ما لم يثبت موته بشكل قاطع. وتعقيباً على ذلك، قالت رئيسة شعبة الموارد البشرية في الجيش، أورنا باربرائي، إن احتمال أن يكون شاؤول على قيد الحياة معدوم، لكنها عادت وأوضحت أن «الجيش لا يعرف بشكل يقيني مصيره».
وبرغم الحساسية المعهودة في التعامل مع قضية كهذه في الوعي الإسرائيلي، فقد بدا واضحاً أمس أن الأداء الإعلامي والرسمي في إسرائيل يكرس عن قصد واقعة أن الجندي المفقود ليس على قيد الحياة. حتى إن التقارير الإعلامية تناولت الحدث بعبارات من نوع «قتيل لم يتم العثور على جثته»، وهو ما يمكن تفسيره بوجود نية متعمدة لدى المؤسسة الإسرائيلية إما إلى استفزاز المقاومة الفلسطينية لكشف ما لديها من أوراق بشأن الجندي المفقود وإما إلى حرمانها ورقة المساومة على الكشف عن مصير الجندي انطلاقاً من التسليم المسبق بموته.
بيد أن الأكثر إلفاتاً حتى مساء أمس كان عدم إقحام تل أبيب قضية الجندي المفقود في المفاوضات الجارية حول وقف النار وعدم إعلانها استرجاعه شرطاً مستجداً لقبولها بإنهاء الحرب على غزة، الأمر الذي يعكس دلالات قوية تتصل باستخلاص إسرائيل للعبر من التجارب السابقة. ففي عدوانها على كل من غزة في حزيران عام 2006 ولبنان في تموز من العام نفسه، رفعت الحكومة الإسرائيلية شعار الإفراج عن غلعاد شاليط الذي أسرته المقاومة الفلسطينية في عملية الوهم المتبدد، وكذلك عن مارك ريغيف وإهود غولدفاسر اللذين أسرتهما المقاومة اللبنانية في عملية «الوعد الصادق» كشرط لوقف الحرب. إلا أنه سرعان ما شعرت تل أبيب بأنها تورطت في هذا المطلب، ما اضطرها أخيراً إلى إنهاء العدوان من دون أن تسترجع جنودها الذين سُلموا لاحقاً في إطار عمليات تبادل أسرى أفرج فيها عن مئات المعتقلين. من ناحية أخرى، يؤشر إعراض إسرائيل عن التلويح بضرورة استعادة جنديها كشرط لوقف النار إلى مدى المأزق الميداني الذي تجد تل أبيب نفسها غارقة فيه وتقديمها لأولوية إنهاء الحرب على أي أولوية أخرى.
وبالعودة إلى المواجهة التي شهدها حي الشجاعية في غزة ليل الأحد الماضي، فقد وصفت مصادر إسرائيلية ما حصل بأنه المعركة الأشد التي خاضها الجيش في عملية «الجرف الصامد» حتى الآن. وقالت مصادر عسكرية إن عناصر المقاومة الفلسطينية لم يعودوا يختبئون كما في عملية «الرصاص المصهور»، بل يخرجون إلى المعركة وينفذون عمليات انتحارية فعلية. وفي تفاصيل «حادثة آلية الموت»، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية نقلاً عن ضابط رفيع أن ناقلة الجند وهي من نوع M113 تعطلت أثناء دخولها إلى حي الشجاعية، فخرج منها قائد الفصيل وعنصر الإشارة لأجل ربطها بآلية أخرى وجرّها، فيما بقي داخلها سبعة جنود. وما هي إلا لحظات حتى تعرضت الآلية المعطلة لصاروخ مضاد للدروع فجّرها «وحوّلها إلى كتلة نار»، فيما كانت طائرات الاستطلاع تنقل صورة الانفجار إلى شاشات غرفة القيادة في تل أبيب. ونشرت القناتان الإسرائيليتان الثانية والعاشرة، مساء الاثنين، تقارير مصورة عن العملية التي قالت إنها أكثر العمليات «صعوبة» تمر على لواء «غولاني» منذ سنوات طويلة. وبثّت لقاءات مع جرحى من الجنود الذين نجحوا في الفرار من مكان العملية. وقال أحد جنود وحدات الإسناد التي وصلت إلى مكان الحدث، والذي أصيب خلال العملية، إنها كانت مهمة صعبة و«لم نفهم ما جرى بتاتاً»، مشيراً إلى أن الجنود الذين قتلوا كانوا عبارة عن أشلاء. ووصف الجندي ما حصل قائلاً «وصلنا لإنقاذ الجنود، لكنهم كانوا جميعهم عبارة عن أشلاء. وصلنا زحفاً نحو المكان بحثاً عن أشلاء أصدقائنا.. كنا نجد عناصر حماس قبالتنا.. هم يحاولون سحب جنودنا ونحن ننسحب.. كانت لحظة عصيبة.. صورة لم تفارقني أبداً.. لقد أطلقوا الرصاص علينا وألقوا القنابل الحارقة تجاهنا وهم يحاولون سحب جنودنا القتلى». وقال مصدر عسكري لموقع «والاه» إن النيران بقيت مشتعلة داخل المدرعة لأكثر من 3 ساعات متواصلة، ولم يستطع أحد الاقتراب من أجل الإطفاء. كذلك لفت المصدر إلى أنه في نهاية المطاف تمكنت وحدة تابعة لسلاح الهندسة في الجيش من جرّ المدرعة إلى خارج أراضي القطاع.
وانتقد معلقون إسرائيليون استخدام الجيش آلية M113 في اقتحام غزة، وهي آلية دخلت إلى الخدمة منذ عشرات السنين وليست محصّنة أمام قذائف الآر بي جي. وعلّق قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، الجنرال سامي تورجمان، على هذه الانتقادات بالقول «لا يمكن تدريع كل الآليات التي ندخلها إلى القطاع».