غزة | يمكن أخذ نظرة واحدة في مدينة رام الله، وسط الضفة المحتلة، لمعرفة ما دعا قيادات السلطة الفلسطينية إلى تغيير مواقفها بصورة مفاجئة. في المدينة، كانت هناك مسيرتان: الأولى بالآلاف تأييداً لكتائب القسام التابعة لحركة «حماس»، والأخرى بالعشرات فقط تأييداً لرئيس السلطة محمود عباس.
أمام هذا الواقع الجديد الذي خلقته فصائل المقاومة وقعت السلطة بين خيارين: إمّا أن تنزوي في ثياب التسوية السلمية وقذف المقاومة فتظل منبوذةً في الشارع، وإما أن تغيّر نغمتها المعتادة تجاه جدوى المقاومة لامتصاص غضب الشارع والتحوّل إلى فاعل أساسي في أيّ اتفاق تبرمه المقاومة مع العدوّ، وهو ما سيساعدها على حلّ أزمة الثقة بينها وبين الشارع والتحلّل من عملية التهميش، وخصوصاً على صعيد تبادل مبادرات التهدئة مع أطراف عربية ودولية. وحتى أمس، يبدو أن السلطة ذهبت إلى الخيار الثاني.
رغم ذلك، يجب الانتباه إلى أي أهداف أخرى، فعين بعض قيادات السلطة مصوّبة على كرسي الحكم بعد عباس. هذا ما قد دفعها إلى تبني خطابات قريبة من المقاومة واللعب على الوتر العاطفي عند الجمهور الفلسطيني، وهي لم تنزل تدريجاً من شجرة التعرّض لفصائل المقاومة والاستخفاف بدورها، بل من دون سابق، أسقطت نفسها من أعلى الشجرة ووصلت إلى أرض المقاومة.
ظهر هذا التحول في الانقلاب الجلي على خطابها السياسي، إذ تبنّت كلاماً مغايراً لما كانت تنادي به طوال سنوات حكمها. اللافت أن شخصيات سلطوية عُرِف عنها العداء التام لـ«حماس»، وهاجمتها في حروب ماضية، خفّفت حدة تصريحاتها التي تطاول نهج الحركة وأجندتها. كذلك يستحيل وصف «الانقلاب الخطابي» بالفردي، بل صار واضحاً أنه نابعٌ من قرار مشترك اتفقت عليه قيادات السلطة في غرف اجتماعاتها المغلقة بعدما أحاطها الخوف من اشتعال الضفة المحتلة مجدداً، وخروج الأمور عن سيطرتها إثر مواقفها الرخوة من العدوان على القطاع في أول أسبوع من الحرب، وتحديداً ما قبل مجزرة الشجاعية. في تلك المرحلة، بقيت تصريحات السلطة ومواقفها محصورةً في مربع تحميل «حماس» مسؤولية تصعيد الأوضاع الميدانية مقابل منح العدوّ الإسرائيلي الحق في «الدفاع عن النفس»، بالتحديد كما قال وزير الشؤون الخارجية في حكومة التوافق رياض المالكي. أيضاً أطلّ الأمين العام للرئاسة، الطيب عبد الرحيم، على قناة «العودة» الأسبوع الماضي، شاهراً سلاحه في وجه «حماس» وسالخاً إياها عن مسار المقاومة الصادقة. وقال عبد الرحيم إن «فتح جبهة للقتال مع إسرائيل يهدف إلى تسجيل النقاط ضد الرئيس»، مضيفاً: «تصعيد حماس العسكري يسعى إلى إحراج السلطة، فضلاً عن إحراج مصر».

عين بعض قيادات السلطة مصوّبة على كرسي الحكم بعد عباس دفعها إلى دعم المقاومة

وفي اللحظة التي حسمت المقاومة فيها أمرها وأعلنت رفضها مبادرة المصريين والإسرائيليين، وجّهت بعض قيادات رام الله سهام نقدها تجاه «حماس»، محمّلةً إياها المسؤولية عن شلال الدم المنهمر في القطاع. لكن بعد أن تبيّن لتلك القيادات أن المقاومة تقف على أرضٍ صلبة، وتدافع من موضع قوة، بدأت السلطة تتحسّس ضعفها وتخدّر الشارع بخطابات مديحٍ للمقاومة.
قاد هذا المسار أحد أهم الوجوه التطبيعية مع العدوّ، وهو أمين السر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ياسر عبد ربه، الذي خرج أكثر من مرة على شاشة تلفزيون فلسطين بمضمون خطاب يتناغم مع مطامح المقاومة وغاياتها. وقال عبد ربه، أول من أمس: «غزّة ليست راعيةً للإرهاب، بل هي درع صامد في وجه الاحتلال الإسرائيلي... يا ويلنا نحن الفلسطينيين إذا كسرت غزة». وتابع: «مطلب غزة برفع الحصار هو مطلب الشعب الفلسطيني كله، وليس مطلب فصيل دون غيره»، مؤكداً أن «لا حماس ولا سلاحها يتحمّلان المسؤولية عما يجري، بل إسرائيل المجرمة»!
حتى إن مستشار الرئيس للشؤون الدينية، محمود الهباش، الذي دوما يصبّ جام غضبه على «حماس» ويتهمها بالتحرّك وفقاً لأجندة جماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة، انضمّ إلى القائمة وأكد أن «كل مطالب المقاومة محقة». وقال: «الصواريخ وصلت إلى تل أبيب، وعلى إسرائيل أن تتوقع أكثر».
في المقابل، ينكر عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، جمال محيسن، هذا التفسير لوجود خطابين، ويقول لـ«الأخبار»: «موقف السلطة وفتح لا يحتمل التأويل، فمنذ البداية استنكرنا العدوان على القطاع وحمّلنا الاحتلال مسؤولية التصعيد الذي انطلق من الخليل»، مكملاً: «ليس هناك أي تغيير في خطابنا، لكن كل مرحلة لها ظروفها ورسائلها وتقتضي خوض معركة مختلفة بالمقاومة المسلحة أو الشعبية، والآن تحديداً لا مناص عن دعم إطلاق الصواريخ لوقف العدوان».
ويستطرد محيسن: «وحّدتنا غزّة جميعاً في هذا الخندق، لأن شعبنا كله تحت المقصلة الإسرائيلية، ما يوجب توحيد خطابات السلطة وجميع الفصائل بالدفاع عن غزّة وتعرية الاحتلال». لكن لا يمكن في هذا السياق إغفال أن السلطة لم تدع إلى انتفاضة في الضفة، بل هي لا تزال تواصل التنسيق الأمني وتمنع المتظاهرين من الوصول إلى المستوطنات.
تفسيراً لهذا المشهد، يرى المحلل السياسي، عادل سمار، أن هذا التغير الذي يقود دفّته عبد ربه «ليس سوى محاولة لركوب الموجة وتصدّر المواجهة التي ليست القيادة الفلسطينية طرفاً فيها». ويتابع: «عبد ربه تحديداً معادٍ للحركة الوطنية، لكن يبدو لشعور هذه القيادة بأنها في مأزق كبير بعدما التف الناس جمعيهم حول المقاومة، جرى القرار بالحفاظ على بعض الرصيد، وربما لتحسين حظهم في إمكانية خلافة عباس في الحكم».
ماذا عن طموح هذه القيادات في تحوّلها لاعباً أساسياً في اتفاقات التهدئة؟ يجيب سمارة بالقول: «السلطة تريد أن تأخذ حصة من وراء الاتفاق دون جهد ودور حقيقي، لكن هذه انتهازية سياسية اعتدناها حتى باتت مدرسة لها قواعدها وجذورها في فلسطين».