تفتيش حزب الله - أو الثنائي الشيعي - عن رئيس توافقي، فكرة لا تجد قبولاً لدى خصوم الحزب، وأيضاً لدى حلفاء له، ليس لجهة رفض التوافق، وإنما لخلفيات تتعدى المبدأ بذاته، لتطرح في العمق مستقبل الحالة اللبنانية التي باتت منقسمة على ذاتها. فالبحث الحقيقي يدور حول ماذا يريد حزب الله وحلفاؤه، وماذا يريد السنّة ولو تشرذمت قياداتهم، من موقع الرئاسة الأولى. وهل يعني التوافق اختيار شخصية رئاسية لا تمثيل ولا وزن سياسياً لها، أم تعني الاتفاق الفعلي على رئيس له حضور فاعل وشخصية لا التباس على موقعها ودورها؟إذا كانت كل القوى السياسية تتعاطى واقعياً مع عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية في المدى القريب، فإنها في المقابل تختلف على توصيفه، ليس بهويته أو اسمه ولا بانتمائه السياسي. التوصيف الذي يدور البحث فيه يتعلق بالمقارنة بين مرحلتين، مرحلة التسعينيات ومرحلة تشكيل الحكومات التي أعقبت مرحلة عام 2005. فمرحلة الوجود السوري أفرزت رئيسين وحكومات في شكل مخالف كلياً لما كان يريده المسيحيون، ومرحلة ما بعد عام 2005، أفرزت واقعاً لم يأخذ برأي الأكثرية النيابية التي ربحت الانتخابات في دورتي 2005 و2009.
لم يكن حزب الله ممثلاً في مرحلة التسعينيات بما يجعل منه قوة مشاركة في القرار الذي كان يتخذه النادي السياسي حينها. أما في المرحلة التي تلت عام 2005، فقد أصبح مشاركاً أساسياً في القرار وآلياته. وحين أراد الرئيس سعد الحريري بدعم من الرئيس نبيه بري إجراء تسوية مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية عام 2016، كاستعادة لمرحلة التسعينيات، وقف حزب الله والقوات في وجه التسوية الباريسية فأسقطاها. اليوم تكمن خشية قوى معارضة، وحلفاء لحزب الله وتحديداً التيار الوطني الحر، في أنه انحاز إلى استعادة فكرة النادي السياسي للتسعينيات خارجاً من ظل الرئيس القوي مرة أخرى. قد تكون أخطاء الرئيس السابق ميشال عون كبيرة جداً، وقد يكون عهده من أسوأ العهود التي عرفها لبنان، لكن فكرة الإتيان برئيس قوي ممثل لطائفته وله كتلة وازنة، بعد مرحلة الوجود السوري ومرحلة التسويات التي أعقبت عام 2005 ومن ثم اتفاق الدوحة، كأنها لم تعد تغري حزب الله ولا أي قوة سياسية أخرى من حلفائه.
تخطى حزب الله في نظر خصومه وحلفائه بأشواط فكرة رئيس للجمهورية، متعب بالمعنى السياسي ولو كان حليفاً، ورئيساً يطالب بحصصه وحصة كتلته النيابية كلما احتدمت المشكلات الداخلية في المحاصصة. وتخطى الفريق السني بدوره ذلك، لأسباب تتقاطع مع حزب الله، يضاف إليها ما تركه من ارتدادات سلبية عهد عون وأداء رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في محاولة تقاسم تركة الدولة وتوظيفاتها وصفقاتها.
لذا تحول الحديث في الحوارات المتداولة حول التوافق على اسم رئيس للجمهورية، يعبّر عن مرحلة انكسار وهزيمة بدل أن يكون معبّراً عن مرحلة انتصار أفرزتها الانتخابات. وإذا جرى تخطي نتائج الانتخابات فإن ما يتم تداوله هو رئيس يشبه شخصيات مسيحية سبق أن عرف لبنان مثيلاً لها في مراحل سابقة، والديوانيات واللقاءات التي كانت تعقد تحت مسميات معروفة الاتجاه، من دون أن يكون المقصود اسماً محدداً، لأن الحديث يتشعب إلى مروحة من الأسماء بعضها قيد التداول وبعضها لا يزال في المغلفات المغلقة، ويجنح نحو اختيار شخصيات معروفة لكنها لا تعكس حقيقة دوراً مفترضاً لرئيس الجمهورية، ولا تؤدي ما هو مطلوب منه بعد مرحلة الانهيار السياسي والاقتصادي الذي يعرفه لبنان. إذ ستكون للرئيس الجديد أجندة كبيرة من الاستحقاقات السياسية والمالية والتوظيفات وخطة النهوض والتعافي، وأي رئيس للجمهورية كبعض الشخصيات المطروحة يعني أن القوى السياسية التي ستأتي به ستظل متحكمة بمفاصل الدولة ومقدراتها. وهنا يبرز اختلاف بين قوى المعارضة والموالاة في التعامل مع هذه الأسماء. فالتيار الوطني الحر في محاولته القبول على مضض فكرة تخطي الرئيس القوي، بعكس كل أدبياته السابقة، بات ينظر نحو الرئيس «التوافقي» من خلال حسابات أقل من الطموحات التي ينادي بها منذ سنوات. أي بمعنى تأمين مسبق لتقاسم الحصص والمواقع، بدل التمسك بفكرة التوافق على الرئيس الأنسب ولو لم يكن الأقوى في طائفته. وهذا الأمر لا بد أن ينعكس عليه سياسياً، في قبوله بأي شخصية رئاسية مقابل إرضائه بتعيينات في مواقع حساسة أمنية أو مالية. ما يشكل بالنسبة إليه هزيمة سياسية، لأن ما قبل الرئاسة غير ما بعدها مهما حصل على تعهدات من الرئيس المفترض. أما قوى المعارضة فيساهم تشرذمها كذلك على المدى البعيد في وصول شخصية توافقية، ولو كانت دون الحد الذي يمثل تطلعاتها، وهذا يكرس بالنسبة إليها كذلك هزيمة سياسية، وهي لا تزال تحتفل بانتصاراتها الانتخابية.