غزة | بين الحياة والموت فارق زمني قصير، يبدو من بعيد كخيط ناري خبيث ينزل من الطائرات مدفوعا بقوة الحقد على الصغار، فيحولهم إلى خبر أليم، ويبقي الحسرة في قلوب أمهاتهم اللواتي أشبعن وجوههن لطما وضربا لعلهن يستفقن من هول الصاعقة التي حلت عليهن. إنها الحرب، لم تبق ولم تذر من البراءة شيئا، بشهادة ميناء غزة. هنا، جُبلت دماء أربعة اطفال من عائلة بكر برمل الشاطئ. أعمارهم كانت ما بين التاسعة والعاشرة. عام واحد فقط يفرق بينهم. جاؤوا قبل موتهم إلى الشاطئ هربا من ضوضاء الحرب الطاحنة إلى حيث كانوا يظنون أن الهواء والماء راكدان والمراكب رابضة. شهود عيان كانوا بالقرب من المكان رأوا الصغار وهم مفعمون بالنشاط، قائلين لـ«الأخبار» بوصف لا تخونه الذاكرة إن الأطفال كانوا يركضون بحركات أقرب إلى الرقص، ويقفزون بين مراكب الصيد التي يقتات منها آباؤهم، فهذه العائلة معروفة بأنها تعمل في الصيد. كانوا كما لو أنهم أسماك اشتاقت إلى رؤية شمس الغروب للمرة الأخيرة...

لكن الاحتلال قرر اصطيادها!
على نحو المصادفة، كان على مقربة من الأطفال، قبل الحادثة، أنور دبابش الذي يعمل في إحدى مؤسسات الإغاثة الدولية. يقول إنه كان ينظر نحو الأطفال وهم يهللون ويلوحون لبعضهم بعضا. فجأة نحى نظره اتجاه زاوية أخرى من الميناء، حتى فزع بصوت صاروخ سقط قرب الأطفال وأصاب (كونتينر) خاليا، فحمد الله أنهم نجوا من الاستهداف.


والدة أحد
الأطفال الضحايا
تصرخ: لماذا قتل نتنياهو ابني؟
«لما ركضوا هاربين والنار تشتعل خلفهم، دهمهم صاروخ ثان»، يقول دبابش الذي أخذته «الحمية» فهرع نحوهم لإسعافهم بعدما غطتهم سحابة بارود، ولما انقشعت فاح الدم وتكشف تفحم أطرافهم وتمزق أحشائهم. كانت الكاميرات حاضرة، ونقلت مشهد القصف ومشهد الأشلاء. كم كان مرعبا النظر فيه.
عند البيت، يخطف نحيب أمهات الأطفال القلوب ويجفف الدماء في العروق ويثير التعاطف معهن بطريقة لا توصف. إحداهن جاءت وهي كانت تظن أن ابنها مصاب ولا يزال على قيد الحياة، لكن الصدمة أنها لحظة وصولها قسم ثلاجات الموتى في مستشفى وسط مدينة غزة، بزغ وجه طفلها من الكفن الأبيض، وهو مسجى على حمالة الإسعاف.
غادرنا الشهود في مسرح الجريمة، وذهبنا مسافة 500 متر فقط. نحو منزل الشهداء. هم أبناء عم يقطنون في مخيم الشاطئ الفقير غرب المدينة. هناك كان الألم يشطر قلوب ذوي الضحايا الأطفال، ولم يملك المعزون سوى الدعاء لهم بالصبر والسلوان على فقدان فلذات الكبد الأربعة، لكن بلا جدوى.
عبثا تحاول نسوة من العائلة أن يقنعن أم الطفل زكريا عاهد بكر بغيابه عن الحياة. هو لم يكد يبلغ من العمر عشرة أعوام، وهي لم تزل تردد: «ما حد يقولي زكريا مات... زكريا موجود هيني شيفاه قدام عيني»، ولا شيء يعلو فوق غزارة الدموع.
تصرخ أم الشهيد زكريا بحرقة: «لماذا قتلت ابني يا نتنياهو؟ لم يحمل صاروخا ولا رصاصا». لا إجابة سوى أنه قدر الفلسطيني أن يبقى ضحية أمام عالم مصاب بالعور، كما لا جدوى من سؤال الأمهات عن مؤسسات حقوق الإنسان.
بعدما هدأت قليلا، تحدثت الأم عن آخر لحظاتها مع طفلها. قالت إنه كان مولعا بالبحر، وهي حذرته من الذهاب إليه في هذه الأوقات الصعبة التي لا يتوانى فيها الطيران عن قصف الناس، لكنه غافلها وانطلق برفقة أبناء عمومته إلى محبوبهم البحر. القدر شاء ألا يجتمع زكريا مع إخوته الأطفال على سفرة الإفطار أمس، فقد صعد الى السماء. تلهج الأم بلسانها داعية: «الضنى غالي.. ربنا يعوضنا ويصبرنا على ما ابتلانا».
أما إسرائيل التي تحقق في هذه الاستهدافات كلما أحرجت دوليا، دون عقاب لجنودها أو محاسبة، فلا تزال تشن غاراتها المكثفة على غزة، تحت عملية عسكرية تسميها «الجرف الصامد»، وهي في سبيل ذلك تسببت في استشهاد أكثر من 130 مواطنا، بينهم 40 طفلا، وفقا للمرصد الأرومتوسطي لحقوق الإنسان.

داخل سرادق العزاء، يقف رامز بكر وهو يستقبل المعزين من جيرانه في استشهاد نجله محمد (11 عاما)، وقد جفت الدموع في عينيه. بعدما تمالك نفسه قليلا أقبل ليؤكد لـ«الأخبار» أنه لا يزال واقعا تحت وطأة تأثير الحادثة التي سرقت منه «أعز ما يملك». للطفل محمد قصة أخرى تختلف عن أبناء عمومته من الشهداء، فوالده حرم البنين خمسة عشر عاما، قبل أن يرى محمد، وذلك بعدما رزق سبع بنات.
عن يوم استشهاده، «كان ذلك الطفل الرؤوف»، غادر بصحبة والده وأشقائه منزلهم الحالي قبل يوم واحد من استشهاده جراء تهديد الاحتلال منزل جيرانهم بالقصف، الأمر الذي اضطرهم إلى الإخلاء. بعد عودتهم صباحا كان محمد ينهكه النعاس، فقد غفا في حضن والده وغط في سبات عميق بضع ساعات. حاولت الأم إفاقة طفلها الملقب بـ(الداقور) نسبة إلى أحد أنواع الأسماك، لتبعث به إلى مقر وزارة الصحة الذي يبعد مئات الأمتار عن منزله، وذلك حتى يتمكن من تسليم الأوراق اللازمة لتحويل شقيقه يوسف الذي كانت قد وضعته أمه قبل يومين ويعاني ثقبا في القلب، وهو بحاجة عاجلة إلى عملية جراحية في الداخل المحتل.
تقول أم محمد، وعيناها لم تقفا على مكان كأنهما تبحثان عن شيء مفقود: «لقد أفقته مع ساعات الظهر، وأكدت عليه أن يذهب إلى مقر الوزارة حيث خاله هناك، وأن يعطيه الأوراق ويعود مباشرة، لكنه طلب اللعب مع الأطفال الآخرين»، وتابعت وهي تبكي: «ذهب ويا ليته لم يذهب.. لقد ذهب إلى الموت».
يشير الأب المكلوم على فقدان ابنه إلى أنه لم يكن يتخيل أن تقدم إسرائيل على ارتكاب هذه الحماقة، «فهؤلاء أطفال آمنون لا يملكون سلاحا أو عتادا». كان مطمئنا إلى لهوهم أمام الشاطئ تحت أشعة شمس تموز. تركناه وهو يطالب بضرورة رفع دعوى قضائية ضد «مجرمي الحرب»، الذين قتلوا الأطفال الأبرياء دون ذنب.
على ضوء الدعوى التي يطمح إليها أهالي الضحايا، يقول المرصد الأورمتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة حقوق إنسان أوربية شرق أوسطية)، إن إسرائيل «تتعمد ممارسة القتل المنظّم بحق أطفال غزة دون أن تُلقي بالا للعدالة أو للمعايير الدولية». وأضاف المرصد في بيان: «هناك قتل جماعي يستهدف أطفال القطاع، وعلى المؤسسات الحقوقية الدولية أن تتدخل لحماية صغار غزة مما ترتكبه القوات الإسرائيلية من انتهاكات متواصلة هي جرائم حرب وإبادة».