غزة | ليس غريباً أن تقف حركة «فتح» موقف المتفرّج إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فهي منذ أمدٍ بعيد انكفأت إلى الخيار السلمي في تسوية الصراع مع الاحتلال. لكن هذه الحالة لم تمنع «أصوات الغضب» بين صفوف قيادات الحركة من الانطلاق ضد رئيسها محمود عباس. يبدو أن تعاطي عباس البارد مع ملف العدوان على غزّة وتلويحه بالحلول السياسية دفعا إلى تحريك المياه الراكدة في صفوف حركته، كذلك إن تصريحاته الأخيرة تجاه شروط فصائل المقاومة للتهدئة أفقدته وزنه في الشارع.
واليوم، يظهر «أبو مازن» الذي لم يملّ تكرار حديثه عن قلة جدوى صواريخ المقاومة وعبثيّتها مكشوفاً في الساحة السياسية، بعدما فجّرت الحرب مفاجآت في قدرات المقاومة الصاروخية ومدياتها المتباينة في هذا التوقيت المفصليّ، خاصة أنه والدائرة المحيطة به راهنوا على وهن جسد حركة «حماس» في ظل أزماتها الماليّة الخانقة وتقلّبات مشهد «الربيع العربي» وفتور علاقتها مع حلفائها الاستراتيجيين سابقاً، وكانوا يتوقعون أن ترفع رايتها البيضاء في مواجهتها الأخيرة مع إسرائيل.
اللجنة السياسية
لمنظمة التحرير تحفظت على المبادرة دون الإعلان


ردّ فعل المقاومة جاء على عكس ما تشتهي سفن السلطة، لتوقع من في «قصر المقاطعة» فريسة لتقديرات ورؤى مستشاريه المتضاربة والمعزولة عن الواقع. كذلك وسّعت حالة الجدل السياسية دائرة منتقديه وخلقت هوّة بينه وبين قيادات كثيرة في «فتح» صارت تنادي جهاراً بضرورة عزل القيادة الحالية عن المشهد الحاكم. ويرى المراقبون أن تظهير الغضب الفتحاوي الذي كان كامناً قبل مدة بسيطة سيقود إلى عملية جرد للحساب وإعادة ترتيب أوراق الحركة وتغيير هيكليتها، ولا سيما بعد أن تضع الحرب أوزارها.
حالة رئيس السلطة المهمّشة فصائليّاً، حتى على صعيد طرح مبادرات وقف إطلاق النار وسعي عدد من الأطراف العربية والدولية إلى أداء دور الوسيط معه، تشير إلى كيفية انحراف مسار الصراع عن طريق الحلول السلميّة التي تشبث به الرجل. كلّ ذلك أبعد عباس عن الأضواء وأضعف موقفه أمام حركته والشارع، بعدما كان شريكاً مهماً لإسرائيل والولايات المتحدة في جولة المحادثات التي رعتها الأخيرة.
وكشفت صحيفة «هآرتس» العبرية، أمس، عن أن مهندس المبادرة المصرية الأصلي هو عباس الذي بادر بالاقتراح على المصريين وقف «الأعمال العدائية» من كلا الطرفين، «على أن تُبحث المسائل المتعلقة بفك الحصار عن قطاع غزّة على طاولة المفاوضات لاحقاً». هكذا، يتقاطع عباس مع إسرائيل في منع فصائل المقاومة من قطف ثمار انتصاراتها ميدانياً، على أن يُعاد تفعيل معادلة «الهدوء مقابل الهدوء» مع تراكم سنين الحصار على الغزيين.
وسط هذه «المطامح العباسيّة»، ارتفعت حدّة لهجة قطاعات عريضة في «فتح» إزاء نهج السلطة حتى تماثلت مع تصريحات خصوم الحركة السياسيين. من بين تلك الأصوات، النائب عن «فتح» في المجلس التشريعي جمال حويل الذي كتب على صفحته الشخصية على موقع «فايسبوك»: «الأخ الرئيس عباس رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة فتح. أنت بحاجة لتغيير كبير وسريع في مكتب الرئاسة والمستشارين»، مضيفاً: «المشكلة هي أن نكون فلسطينيين فتحاويين همنا إزالة الاحتلال كما كنا وسنبقى مع نبض الشارع، فأبطال الفتح ما زالت أيديهم قابضة على الزناد، ولكن البعض يبحث عن مصالح وهمية سيلفظ صاحبها كما لفظ غيره. تحية للسواعد المقاومة في غزة والضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ ولبنان وفي كل مكان».
«الأخبار» تواصلت مع حويل الذي أبدى «عدم الرضى على تصريحات السلطة وبعض قيادات فتح في ما يتعلق بالعدوان على غزّة، قائلاً إن هذا سيدفع تجاه عقد الحركة قريباً مؤتمرها الوطني السابع لإحداث التغييرات اللازمة». وأضاف: «حين تبدأ المعركة على الأرض، على الجميع أن يتوقف عن انتقاد حماس كونها تتحكّم بالميدان حالياً ومن حقها فرض اشتراطات التهدئة». لكنّ النائب أبدى مخاوفه من محاولة فصل القطاع عن الضفة المحتلة وبقيّة المدن الفلسطينية، جرّاء غياب إشارة في بنود التهدئة إلى وقف الاستيطان والتهويد والعدوان في الضفة. وقال إن «ترسيخ الحدود بين غزّة والضفة أخطر بدرجات كبيرة من العدوان الجاري. لذلك يجب على حماس والفصائل إعادة دراسة بنود التهدئة».
في المقابل، نفى القيادي الفتحاوي يحيى رباح طفو أيّ بوادر للغضب الفتحاوي الداخلي على السطح، مؤكداً أن هناك إجماعاً على ضرورة إدارة عباس دفّة الأمور في قطاع غزّة وإيقاف شلال الدم المنهمر هناك. وشدّد في حديث لـ«الأخبار» على أهمية تفويت الفرصة على الاحتلال الإسرائيلي المعني بانهيار اتفاق المصالحة الأخير بين «فتح» و«حماس».
وقال رباح: «الهدف الأساسي من العدوان هو الانتقام من عباس وإضعاف الحالة الفلسطينية وإسقاط مكتسباتنا السياسيّة الأخيرة». أما في ما يتعلّق بمحاولة المحور القطري ـ التركي القفز عن الدور المصري لرعاية اتفاق التهدئة، علّق رباح بالقول: «لا يمكن أياً من الدوحة أو أنقرة أن تحلّ بدلاً من الدور المصري، لأن غزّة جزء رئيسي من منظومة الأمن القومي المصري».
ووصل عباس إلى القاهرة أمس لبحث المخارج المحتملة والحلول المطروحة لوقف العدوان على غزّة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على أن يتوجّه بعد ذلك إلى تركيا. في هذا الإطار، أوضح رباح أن «عباس يعي تماماً أهمية أردوغان في المنطقة لكونه رجلاً سياسياً من الطراز الأول ويزن الأمور بموازينها». كذلك تطرّق إلى أحقيّة «حماس» وفصائل المقاومة بتحسين شروط التهدئة، «واستثمار الانتصار الميداني في إيجاد حل جذريّ للحصار المفروض».
بين هذين الرأيين المتباينين، يرى الكاتب والمحلل السياسي أكرم عطاالله أن «تباينات فتح التي بدأت تظهر بوضوح في الآونة الأخيرة ليست نابعة من مبدئية حقيقية تجاه ما يحدث في القطاع»، مقدراً في حديث مع «الأخبار» أن تكون هذه التباينات «مرتبطة بمؤتمر الحركة المترقّب ومحاولة حشد الأصوات عبر امتطاء ظهر غزّة والتغريد خارج سرب الرئيس».
ووفق محضر مسرب لـ «الأخبار» عن اجتماع اللجنة السياسية لمنظمة التحرير الذي عقد أول من أمس في رام الله دون حضور عباس، فقد أبدى الحاضرون تحفظات واضحة على المبادرة المصرية وقراراً بألا يصدر تعليق من المنظمة عليها، وذلك رغم الأقوال الرسمية للرئاسة و«فتح» التي رحبت بها منذ صدورها ورأت في رفض «حماس» لها تعنتاً وأنه موقف في غير محله. وعبر نائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح الذي كان حاضراً في الجلسة عن رفضه المبادرة المصرية وما خرجت به قمة وزراء الخارجية في الجامعة العربية، لكنه دعا إلى معالجة هذا الرفض بطريقة تناسب موقع مصر من القضية، وهو ما أشار إليه مسؤول الوفد الفلسطيني للمفاوضات صائب عريقات بالتلميح إلى أن تحركات عباس في القاهرة وأنقرة تأتي في هذا الإطار، أي تعديل البنود الواردة في المبادرة. ولفت عريقات إلى أن مصر لم تكن تنوي التحرك أساساً في الملف لولا ضغط رئيس السلطة عليها.