غزة | أكثر من 281 بيتاً في غزة تعرضت للقصف المباشر ومئات أخرى تضررت جزئياً. لكل بيت من هذه البيوت حكاية. منها من يقصف للمرة الثالثة بعد استهدافه في حربين سابقتين وإعادة إعماره. كذلك حظيت بعض هذه البيوت بفرصة لتصويرها خلال القصف بداية بثلاثة صواريخ تحذيرية يتلوها صاروخ أو اثنان من وزن الطن وأكثر، ليصير «شقا العمر» ركاماً، في حين تسجل أسماء عائلات أخرى ضمن قائمة ضحايا المجازر إن لم يكن من نصيبها الصاروخ التحذيري.
لا مجال لتكذيب صاروخ التحذير، فهو الإنذار الحقيقي في مقابل اتصالات الإنذار التي قد يأخذها أهل البيت في إطار الحرب النفسية. ثلاث دقائق هي كل ما يمنحه هذا الصاروخ الذي يحدث أضراراً متوسطة، أو طفيفة، على سطح البيت مع صوت عال، وذلك حتى تخلي العائلة منزلها (يتراوح عدد أفرادها ما بين 15 و40). يجب أن يفرّوا خلال هذه الدقائق وإلا فسيكون مصيرهم الموت. وهم على سباق مع الزمن أيضاً من أجل إبلاغ جيرانهم بخبر الدمار القادم من السماء.
يتناقل الغزيون أخباراً كثيرة عن صواريخ التحذير، وهم يتندرون بأن اللازم على كل شخص أن ينام بكامل ملابسه وأن تكون العائلة في مكان واحد حتى يكون الإخلاء سريعاً، وصولاً إلى الروايات الحزينة عن شاب كان خارج بيته ولم يستطع إبلاغ أهله الذين لا يمتلكون هاتفاً بأنه ورده اتصال لإخلاء البيت، فأصبح صاروخ التحذير مرغوباً فيه، فلولا غيابه ما مات الأهل. كذلك ينقلون رواية عن عجوز أصم استشهد لأنه لم يسمع صوت انفجار الصاروخ التحذيري ولم يستطع أبناؤه مع ارتباكهم في إخلاء المنزل الوصول إليه!
تقول إسرائيل
إن سياسة «اقرع الأسطح» تراعي قواعد الحرب الدولية

المفارقة أن الاحتلال يرى في هذا الصاروخ قمة الإنسانية، لأنه ينذر «قاطني البيت قبل قصفه حتى لا يوقع ضحايا في صفوفهم»، ما قد يوحي للعالم بأن هناك تجنباً لاستهداف المدنيين، وكأن هدم البيت ليس جريمة! يمكن وصف هذا الصاروخ ببراءة اختراع جديدة سعت إسرائيل بها إلى الهرب من الملاحقة القانونية، وضمان ألا تتهم بأنها ترتكب بسياسة تدمير البيوت جرائم حرب.
ما إن يطلق الصاروخ التحذيري، حتى يقف أهل الحي من الشباب والأطفال على مسافة لا تزيد على 50 متراً بكاميراتهم أو هواتفهم ليصوّروا المشهد الذي يجتهد منتجو السينما في إتقانه ضمن الخدع البصرية، وها هو واقع متكرر يومياً أمامهم. يقول محمد نوفل، من المنطقة الوسطى، إنه رصد قصف منزل ابن عمه القيادي في «حماس» أيمن نوفل. ويروي لـ«الأخبار» أن الاحتلال أبلغ العائلة، عن طريق اتصال مسجل، ضرورة إخلاء المنزل، «لكنهم لم يستجيبوا في البداية، وسرعان ما جرى إطلاق «صاروخ تحذيري»، مضيفاً: «ظننا بداية الأمر أن لدينا عشر دقائق، ولكن لم تمض دقيقة واحدة وكان المنزل قد سوّي بالأرض».
أما عائلة الحاج فكان حظها عاثراً، لأنها لم تستطع أن تفر بعد إطلاق صاروخ الاستطلاع، ما عدا أحد أفرادها الذي يدعى أحمد وراح يركض بسرعة جنونية ظاناً أن عائلته تركض معه، كما لم ينتبه إلى الأصوات التي يسمعها، وعندما حاول أن يختبئ خلف سور قريب وجد نفسه وحيداً من دون عائلته، فعاد يركض نحو البيت، لكن ثلاثة صواريخ من طائرة حربية سبقته وحصدت أرواحهم جميعاً، ليظل وحيداً كي يسرد الحادثة طوال حياته، ويخبر الناس كيف رأى بيته يتفجر وكيف أصبح مع أهله أثراً بعد عين. يقول لـ«الأخبار»: «أقل من دقيقة راحت كل عيلتي، كنت معهم بسمعهم وبهدّي الأولاد من صوت القصف، فجأة كلهم يروحوا! كيف صارت؟ بأي قانون وبأي حق بصير فينا هيك؟»، وراح يصرخ: «وينك يا عباس وينك يا حكومة وينك يا دول عربية؟ حسبنا الله ونعم الوكيل عليكم كلكم».
وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية قد قالت إن قوات الجيش الإسرائيلي تستخدم طريقة أطلقت عليها اسم «اقرع السطح» لتدمير منازل الفلسطينيين في غزة عبر قصفها جواً أو بحراً أو براً. وأوضحت أن انفجاراً صغيراً يحدث، «ثم دقيقة انتظار واحدة تمثل الفرق بين الإبادة الكاملة أو الجزئية، أو في أحيان لا تذكر».
وأضافت الصحيفة: «بعد التحذير يأتي الانفجار الهائل والضخم قادماً من السماء أو عبر شاطئ البحر ليختفي البيت من على وجه الأرض». وراحت «يديعوت» تشرح طريقة عمل «اقرع السطح» بالقول: «أولاً تصل طائرة استطلاع وتطلق صاروخاً ذا رأس متفجر صغير على المنزل المستهدف لتحذير سكانه وإجبارهم على إخلائه، وذلك تماشياً مع نصوص القانون الدولي»، مشيرة إلى أن هذه الطريقة استخدمت في سياق استخلاص العبر من تقرير غولدستون الذي حقق في عدوان 2008ــ2009 وأدان إسرائيل بارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، وبيّنت في الوقت عينه أن هذه العبر «لا تتعلق بالكف عن مهاجمة المنازل المدنية الفلسطينية بل بطريقة تغليف هذه الجريمة بقشرة قانونية».
على الجانب الفلسطيني، يقول الحقوقي والمحامي صلاح عبد العاطي إنه «لا يمكن لإسرائيل أن تتحايل على القانون الدولي باختراعها مسميات لا ينص عليها القانون، لكنها تسعى إلى التهرب من المساءلة»، مؤكداً أنها تتعمد استهداف المدنيين والعزل والمحميين بدلائل مجازر سابقة. ويوضح عبد العاطي لـ«الأخبار» أن هذه الطريقة في هدم البيوت «هي جريمة حرب، لأن غزة من أعلى مناطق العالم كثافة سكانية، كما لا يوجد في القانون ما يسمى إنذار المدنيين لإخلاء بيوتهم وقصفها».
رغم كل ذلك، يرى الحقوقي أن إسرائيل تستمد قوتها من عجز المجتمع الدولي والصمت العربي على محاسبتها في جرائمها خلال الحربين السابقتين، «مع أنها جرائم أودت بحياة آلاف الشهداء وآلاف آخرين من الجرحى، إضافة إلى تسلّحها بانحياز أميركي واضح ودعم الدول الأجنبية عبر سلاح الإعلام»، مطالباً بلجنة تحقيق دولية للوقوف على جرائم الاحتلال وتوثيق جرائم الحرب الواضحة.
في السياق نفسه، يفيد المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، بأن صواريخ التحذير نفسها هي الصواريخ التي تستخدم في الاغتيال، وتسبّبت في وصول العشرات من الجرحى والشهداء مبتوري الأطراف، «أو أشلاءً متناثرة من الصعب التعرف على هويتهم بداية الحدث». ويقول القدرة لـ«الأخبار»: «إسرائيل تمعن في التمثيل بالمدنيين الفلسطينيين، وتستخدم أسلحة محرمة دولياً، فكيف نصدق أنها لا تريد إيقاع أكبر عدد منهم شهداء باستخدامها صواريخ التحذير؟».