أسوأ ما يحصل لممثّل أن يفقد حنجرته. هذا ما حصل لنضال سيجري باكراً. كان عليه أن يوّدع كل ما كان يردّده على خشبة المسرح من حوارات ومواقف وتمرينات، منذ أن وطأت قدماه بهو المعهد العالي للفنون المسرحية. هكذا طوى مرغماً، أرشيفاً ضخماً من الأصوات، في درج الذاكرة، ليحاور وحيداً، شخصيات شكسبير وسوفوكليس وموليير، وتشيخوف، ومحمود دياب، وسعدالله ونوس، وآخرين. ماذا يفعل ممثل اخترق السرطان حنجرته على مهل؟
اختفت نبرته العالية أولاً، إلى وشوشة خفيضة، ثم تلاشى الصوت تماماً، فاخترع في آخر أدواره التلفزيونية سبورة بيضاء وقلماً وممحاة، لكتابة ما يودّ قوله. لا يكفي أن نقول بأن نضال سيجري قاوم المرض العضال ببسالة، ذلك أن المرض انتصر عليه، في مبارزة عاجلة، أسدلت الستارة على حياته في الفصل الأول من المسرحية، من دون أن يُخرج ما تبقى من كنوزه، لجهة الأداء البارع، ومهارة التقاط نبض شخصيات، ما كان لها أن تكون بهذا الألق، لولا موهبته الجارفة. المفارقة الجحيمية أن نضال سيجري عاش حياةً مأساوية، فيما كان عليه أن يهدينا جرعات من الضحك، بين جرعة كيمياوية وأخرى. هكذا اهتدى إلى طريق موارب، في أدوار متباينة، وإن تغلّبت على هذه الأدوار الشخصيات الكوميدية، خصوصاً دوره في شخصية" أسعد خرشوف"( مسلسل ضيعة ضايعة). فهذه الشخصية الهامشية البلهاء والطيّبة، تكاد تضاهي شخصية" غوار الطوشة" كعتبة جديدة للشخصية الكوميدية السورية، في مقاربتها بؤس الهامش، ليس من موقع التسلية، كما في شخصية" غوار"، وإنما في هتكها لمنظومة المؤسسة الرسمية، بوصفها ضحية لممارسات الأقوياء، وإنذاراً غير معلن عمّا آلت إليه أحوال الريف المهمل. في " حمّام بغدادي" للمخرج جواد الأسدي، سيرمم شخصية الكائن البسيط بمقومات ودعائم أخرى، بصرف النظر عن المأساة المركزية للنصّ. كأن نضال سيجري الذي لم يحلم يوماً بدور العاشق، وجد ضالته في مطرحٍ آخر، وذلك بنبش الجوانب الخفيّة لشخصيات ثانوية، وإزالة صدأ" المادة الخام" وإعادة البريق إليها، ووضعها في موقع المنافسة. حياة خاطفة وكثيفة بعلامات استثنائية، امتصها الممثل الغائب بشراهة، متنقّلاً بين المسرح والتلفزيون والسينما، ومسرح الأطفال، والإخراج، لإحساسه ربما، بأن حياةً واحدة وقصيرة لا تكفي كي يقول كل ما لديه.
رحل نضال سيجري بحنجرة مستأصلة، وأسى عميق على بلاد كاملة في غرفة الإنعاش.