لو كان الرئيس سعد الحريري على «قيد الحياة» السياسية، لما احتاج مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أن «يعلّي باب داره» لاستقبال أكبر عدد ممكن من النواب السنّة في اجتماعٍ واحد، ولما كان «استعطى» حضور جهاد الصمد أو قاسم هاشم وآخرين إلى «عائشة بكّار»، وما كان أيضاً ليُلقي بعباءة مرجعيته الدينيّة على من صنّفهم إبّان الانتخابات النيابيّة أشبه بـ«الخوارج» عن الدين، أو ليُقدّم «شرعيّة» الدار على طبقٍ من ذهب إلى «متمردي الطائفة» الذين ترشّحوا باسم حزب الله وفازوا بمعيّته. لو لم ينكفئ الحريري منذ أشهر، لم تكن الصورة قد ظُهّرت بهذه الطريقة: أشرف ريفي على يمين المفتي وفؤاد مخزومي على يساره، ولكان سيجري البحث عنهما «بالسراج والفتيلة» في الصفوف الخلفيّة. بكل بساطة، لو لم يكن الحريري منكفئاً، ما كان اجتماع دار الفتوى الذي ضم 24 من أصل 27 نائباً سنياً (تغيّب النواب أسامة سعد، حليمة القعقور وإبراهيم منيمنة) لينعقد. يُدرك العارفون هذا الأمر جيّداً، باعتبار أنّ عمر فكرة اللقاء 15 سنة منذ 7 أيّار واتفاق الدوحة. وفي كل مرة، كان رئيس تيّار المستقبل يُجهض الفكرة قبل تنفيذها متذرعاً بأكثر من سبب، إلى أن لم يجد ذرائع كافية لرد الطلب السعودي عام 2016. حينها، وافق على مضض مشترطاً أن يحصل الاجتماع في بيت الوسط. أيامٌ قليلة قبل أن يبدأ بوضع لائحة المدعوين التي استثنيت منها معظم الشخصيات التي لا تدور في فلك 14 آذار، بحجّة أنه لن يدعو إلا الفاعليات السنيّة الرسمية، مسقطاً منها رؤساء الأحزاب والشخصيات التي تمتلك حيثيّة سنيّة مناطقية (كالوزير السابق عبد الرحيم مراد وجهاد الصمد وفيصل كرامي...)، ما دفع المملكة العربيّة السعوديّة إلى تلبية رغبة الحريري بغض النظر عن اللقاء.
هكذا بقيت المملكة تمنّي نفسها بلقاءٍ من دون أن تحصل عليه. هي التي لم تكن تفتح الأبواب اللبنانيّة إلا باستخدام مفتاح الحريري الأب والابن. ومن أجلهما، هندست كل ما يُسهّل «الأحادية السنيّة». حينما كان رفيق الحريري يقفل البيوتات السياسيّة السنيّة كانت السعوديّة تقف خلف السّتار. وحينما كان «أبو بهاء» يُحاول تقويض شعبيّة بعض الشخصيّات كانت الرياض تُقدّم الغالي والنفيس لهذه الغاية، ممتنعة عن استقبال هؤلاء إلا لأداء الحج والعمرة. ولذلك، كان لزاماً على الرئيس نجيب ميقاتي مثلاً أنّ يحج ويستعمر على مدار السنة التي كان فيها رئيساً للحكومة في العام 2011 من دون أن يستقبله ولو حاجب في مؤسسة رسمية سعودية!
في الجهة المقابلة، كانت دار الفتوى تلتزم بـ«الفتاوى السياسية» للحريريّة. لم تجتهد يوماً بعد استشهاد المفتي الشيخ حسن خالد. وحينما قرّر المفتي الشيخ محمّد رشيد قباني التغريد خارج سرب بيت الوسط «أكل نصيبه». اليوم، المشهد تغيّر. من وقف في «عائشة بكار»، قائلاً للحريري: «لا تقلق أنا معك وعلماء لبنان معك» انقلب عليه، وثبّت «سماحته» قولاً وفعلاً أنّ الحديث صحيح ولكنّه صار موجّهاً اليوم إلى السعوديّة بما لا يشبه تاريخيّة العلاقة بين الدار ورؤساء الحكومات وتحديداً الحريري.
اليوم، صار «طويل العمر» يوغل بالداخل اللبناني من دون استخدام «قفازاته الحريرية»؛ فهو في الأصل يقتص من الحريري الابن. وما الاجتماع الموسّع الذي عُقد في عائشة بكار إلا مأتم رسمي لإعلان وفاة الحريرية السياسيّة التي عاشت 40 عاماً في كنف المملكة ومكارمها.
في حين لا يعتبر تيار المستقبل أنّ هذا الاجتماع كان رسالةً موجهة لرئيسه. بالنسبة له، الحريري علّق نشاطه السياسي وبالتالي لا يملك بريداً كي تصل الرسائل عبره. وتشدّد مصادره على أنّ «اجتماع الدار ومضمون البيان الصادر عنه ليسا موضع نقاش، خصوصاً أن علاقتنا مع الدار ممتازة والمفتي هو مرجعيّة روحيّة وسياسيّة».

دريان البديل؟
ومهما يكن من أمر، فإن السعوديّة التي دفنت الحريرية السياسيّة تبحث عن بديل عنها. هي لم «تعتنق» التعددية السنيّة بل تبحث عن بديلٍ واحد يحل مكان الحريري ويقوم بدوره؛ لم ترتوِ من حرق فؤاد السنيورة في الانتخابات النيابيّة حينما أثبت أنه لا يصبو إلى رتبة قائد، ولا اقتنعت بأن تسليم الساحة السنيّة إلى قائد مسيحي يعني أنّها لم تفهم بعد تركيبة الشارع السني. فيما يعتقد البعض أنّ سيناريو لقاء الدار هو بعض من أفكار جعجع، وتشير لغة البيان الذي صدر واستخدمه دريان في كلمته إلى أن أصابع السنيورة موجودة خلف الفواصل والنقاط، وإن كان البيان لم يقدم جديداً وكان أشبه بـ«لزوم ما لا يلزم»، إذ اكتفى بالعموميّات وبضرورة انتخاب رئيس للجمهوريّة، وكانت الإشارة الأهم رسالة التطمين إلى الشارع المسيحي بأن«رئيس الجمهورية هو الرئيس المسيحي الأوحد في المنطقة العربية». فيما لم يتطرّق البيان إلى «لب الموضوع» أي التشتت داخل الشارع السني وغياب المرجعيّة بعد انسحاب الحريري من المشهد.
إذاً، تُحاول المملكة تثبيت قدمي دريان كمرجعيّة سياسيّة. والدليل على ذلك هو مسودّة البيان الذي كان من المفترض أن يوزّع على الإعلام: «عقد اللقاء برئاسة مفتي الجمهورية»، مما استدعى رداً من بعض النواب الموجودين ولا سيّما النائب جهاد الصمد الذي أكد أنه لا يقبل بهذه الصيغة فتم تغييرها.
هذه المرجعيّة تريدها السعوديّة طيّعة بين يديها، خصوصاً أن المتابعين يؤكّدون أن شخصيّة دريان ليست مؤهلة للقيام بهذا الدور، بالإضافة إلى أنّ البطريركية المارونية تختلف كلياً عن دار الإفتاء التي لا تمتلك فعلياً مؤسسات سياسية ولم تلعب يوماً دوراً وطنياً ضخماً مثلما فعل البطاركة الموارنة على مر التاريخ السياسي.
من الممكن أن المملكة تُحاول أن تلعب «صولد» لأنّها ترى في دريان شخصيّة طيّعة؛ ارتضت أن تغيّر بطلبٍ واحد موعد انعقاد الاجتماع حتى يتسنى «للنواب المصطفين» ومعهم دريان تناول العشاء على مأدبة السفير السعودي وليد البخاري في مقر إقامته، ليظهر بما لا يقبل الشك أن لقاء دار الفتوى حصل بإيعازٍ سعودي. كما طلبت منها إنتاج لقاء معلّب يوحي بأن النواب الذين اجتمعوا أمس سيكونون في الخندق نفسه في كل الاستحقاقات، وسيكتبون على الورقة البيضاء الاسم الذي تريده المملكة كرئيس للجمهوريّة، من دون الأخذ في الاعتبار أنّ من بين الـ24 نائباً الذين حضروا السبت نواباً محسوبين على حزب الله أو مقربين منه أو لا يقبلون حتى بأن يعيشوا حياتهم السياسية بإمرة «طويل العمر».

الدخول إلى اللعبة
فعلياً، لا تريد المملكة قيادة سياسية حقيقيّة، بل «تقريش» اللقاء خارجياً ومحاولة وضعه في سياق اللقاءات السعودية مع الأميركيين والفرنسيين والتي كان آخرها اللقاء الثلاثي في نيويورك. تعتقد المملكة أن اجتماع النواب السنّة وعلاقتها مع سمير جعجع يجعلان منها على الأرض شريكاً للأميركيين والفرنسيين في إنتاج التسويات وحتى اختيار الرئيس الجديد، أو أقلّه أنها تملك «عدّة الشغل» لإمكانيّة تعطيل أي تسوية.
ولذلك، أهمية لقاء دار الفتوى أو اجتماع النواب العشرين في دارة السفير السعودي كانت في الصورة وليس بأي شيء آخر، بدليل أن الحاضرين لم يبحثوا بأي أمر هام. وكان لافتاً غياب النائب عماد الحوت وتردّد أن الأمر مرتبط برفضٍ من القيادة الجديدة للجماعة الإسلاميّة، مقابل حضور النائب عدنان طرابلسي تأكيداً على التموضع الجديد لـ «جمعية المشاريع الخيريّة».
لا تريد المملكة قيادة سياسية سنية حقيقية بل «تقريش» اللقاء خارجياً


وتشير مصادر المجتمعين إلى أنّ اللقاء لدى البخاري تركّز على كلامٍ للأخير عن رؤية المملكة 2030 ورؤية ولي العهد الداخلية، مؤكداً أنّ «السعودية على مسافة واحدة من الجميع». وبحسب معلومات «الأخبار» فإن البخاري اكتفى بالعموميات ولم يأتِ على ذكر حزب الله، وحتى أنّه في معرض حديثه عن مواصفات رئيس الجمهورية اكتفى بأن بلاده تتمنّى بأن يكون الرئيس غير فاسد، واعداً بأن بلاده ستُقدّم مساعدات إلى لبنان وأن هناك اتفاقيّات موجودة في هذا الإطار وعلى الدولة الالتزام بها.
أما في دار الفتوى، فقد تناوب النواب الـ24 على الكلام، واعترض بعض الحاضرين على عدم مناقشة البيان معهم علماً أنه سيصدر عنهم. وكان الصمد أبرز الرافضين، إذ قال: «إننا لسنا طلاباً، بل عليكم الاستماع إلى رأيي وأنا أرفض ما جاء في البيان بالنسبة لمواصفات رئيس الجمهورية»، وهذا أيضاً ما قاله بعض النواب كقاسم هاشم وملحم الحجيري وعبد الرحمن البزري. ولذلك، قدّم الصمد مذكّرة قبل انعقاد اللقاء تتضمن ثوابت الطائفة السنية من دون أن يتم الأخذ بها.
الصمد أكد لـ«الأخبار» أنه لن يُشارك في اجتماعٍ آخر «في حال أرادوا مني فقط أن أبصم من دون الاستماع إلى رأيي أو المشاركة في مسودة البيان أو بأن يركّز البيان على محور مقابل محور»، مضيفاً: «لستُ ضد الاجتماع في المبدأ ولكن كان المضمون سيئاً والإخراج كذلك».