رلى الزين*«غصّ وامتلأت عيناه بالدموع وبصوت مرتجف قال: أذكر ما حدث تماماً كأنّه يحصل اليوم أمامي. بهذه الكلمات أنهى القصة. قصة ولد عمره تسع سنوات شهد سنة 1948 مقتل أخيه وأبناء عمه على يد القوات المسلحة الإسرائيلية في قرية عيلبون. أجبر على المغادرة إلى لبنان مع عائلته وباقي أهالي القرية». هذه الكلمات ينقلها هشام زريق عن والده في الفيلم الوثائقي الذي وضعه عن مجزرة القرية تحت عنوان «أبناء عيلبون».

أما في معرض «جسر نحو فلسطين» فيقدم زريق عملاً يدخل في إطار الفن الرقمي يبرز فيه ولداً عارياً ينظر إلى عدد من الشبّان العارين أيضاًَ يمشون باتجاه الموت، فيتخطَون مقبرة تحمل صليباً وتاريخ المجزرة: 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1948. يقف الولد والخراب يحيط به في حين تنبثق الأزهار من إناء طويل وتتطاير وراء ظهره بالاتجاه المعاكس، مشيرة إلى أنّ الزمن الجميل ولَّى ليحلّ محله وقت عصيب وذليل... هذا عمل صغير نسبياً متى قورن بالأعمال الأخرى الموجودة في «مركز بيروت للمعارض» لكنه معبّر للغاية بدلالاته الرمزية عن قصة شعب ومأساته. ولد هشام زريق في الناصرة عام 1968 في حين ولدت ماري توما في كاليفورنيا عام 1961. أما ستيف سابيلا فهو من مواليد القدس عام 1975 ورانيا مطر من مواليد بيروت 1964. منذر جوابرة من مواليد مخيم العروب، بيت لحم في 1976 وهو العام ذاته الذي ولد فيه محمد الحواجري في مخيم بريج في قطاع غزة. في القدس، ولدت رلى حلواني عام 1964، وفي 1969 ولد في حيفا عيسى ديبي. سميرة بدران ولدت في طرابلس الليبية عام 1964، وبشار الحروب ولد في القدس عام 1978.

فيديو رلى حلواني يستعرض
جوازات سفر لفلسطينيين أعدموا
منذ 1948 حتى اليوم

وفي نابلس 1974، ولد رأفت أسعد. وفي غزة في مخيم جباليا، ولد تيسير بركات عام 1959. في الخليل عام 1979 أبصر وفا حوراني النور. وفي الجليل ولد بشير مخول عام 1963 وناصر السومي عام 1948. ولد محمد مسلم في غزة عام 1964 وفي القطاع نفسه ولدت ليلى الشوا عام 1940. معظمهم ولد هناك. بعضهم لا يزال يعيش ويعمل هناك وبعضهم الآخر يقيم بعيداً، إنما فكره و إبداعه لا يزالان مرتبطين هناك. «هناك» هي أرض فلسطين التي تبدو بعيدة قريبة في الأعمال المعروضة التي جمعها مارك هاشم، صاحب صالة العرض التي تحمل اسمه والموجودة في بيروت وباريس ونيويورك. أعمال فنية متنوعة ومختلفة بموادها وتوجهاتها، لكنها موحدة بعصريتها وإبداعها. إنه إبداع جماعي يعرض للمرة الاولى في بيروت ليؤكّد أنّ الفن تعبير عن الأمل واليأس في آونة واحدة، وقد يكون في الغالب تعبيراً عن مظاهر الوجود الإنساني.
ذاكرة المكان وذاكرة الذات بارزتان في الأعمال الفنية هذه، إلا أنّ مقاربة الموضوع تختلف من فنان إلى آخر.
بخيوط ملوّنة صنعت ماري توما «تطريزات» معقدة وملتصقة واحدة بالأخرى لتخلق أشكالاً تعبيرية مرتبطة بكيانها الشخصي وبالبلاد البعيدة التي تحمل ذكراها في الولايات المتحدة من خلال والدها الفلسطيني. بالنسبة إليها، يشكل العملان «غزة» و«ما أزال هنا» خريطتين، وغطاءين واقيين وصلاتين تعكسان تشعّبات وتحوّلات عوالمنا وأنفسنا في مواجهة تقلّبات دائمة.
تقلبات يعيشها أهالي المخيمات الفلسطينية باستمرار، شهدت عليها رانيا مطر في لبنان، إلا أنها اختارت أن تعبّر بصور جميلة جداً عن الحياة اليومية في تلك المخيمات، عن واقع الناس وتعلّقهم بجذورهم وثقافتهم العزيزة إلى قلوبهم. من جهته، يظهر شريط الفيديو «بوابة إلى الجنة» الذي وضعه بشار الحروب عن مخيم الطالبية في الأردن محاولة لاجئ الخروج والهروب من المخيم باحثاً عن الجنة الضائعة التي بقيت مغروسة في أذهان أجداده وآبائه حتى اليوم. مشاهد قوية لفتى يركض، يلهث، يحور ويدور، يعود إلى نقطة الصفر لكنه لا يفقد الأمل. هذا أمل نجده في العمل المتحرك «من بيروت إلى القدس» أو «من القدس إلى بيروت»، منشأة ناصر السومي الناقية بصفائها ومعانيها وفي لوحاته الضخمة عن المسجد الأقصى. أمل نجده أيضاً في بندقية ليلى الشوا المزيّنة بالزهور واللآلئ التي تذكّر بزمن الهيبيز في السبعينيات وشعاراتهم القائمة على الحب والسلام. تقنيات مختلفة استخدمها الفنانون لإنجاز أعمالهم مثل عرض صور جوازات السفر لفلسطينيين أعدمهم الجيش الإسرائيلي منذ 1948 حتى اليوم من خلال شريط فيديو أعدته المصورة رلى حلواني ركّزت فيه على وجوه نساء وأطفال ورجال، مسنين وشباباً. وجوه وضعتها في إطار أسود ليظهر فقط الشكل البيضاوي من الجبين إلى الذقن ويعطي نتيجة مؤثرة: لمدة 15 دقيقة، تمرّ الصور واحدة تلو الأخرى في غرفة سوداء، فتبرز الوجوه وتحدّق العيون كأن الحياة عادت إلى هؤلاء الأشخاص في هذا المكان بالذات. وفي غرفة أخرى، يقدم عيسى ديبي في عمل فيديو متكامل بنصه وصوره وممثليه محاكمة داوود التركي، الشاعر والثائر الفلسطيني الحامل الجنسية الإسرائيلية الذي حُكم عليه في حيفا بتهمة «الخيانة العظمى» والسجن لمدة 17 عاماً من قبل دولة لم تعترف به كأحد مواطنيها. هناك مواضيع لا تقلّ أهمية عما سبق عالجها آخرون، من سميرة بدران إلى ستيف سابيلا وأفت أسعد، من تيسير بركات إلى محمد الحواجري ووفا حوراني، من منذر جوابرة إلى بشير مخول ومحمد مسلم... من الممكن التوسع أكثر في الكتابة عن هذا المعرض المتماسك والأنيق الذي يُلقي الضوء على نتاج فنانين طليعيين ويفتح نافذة أو ربما باباً أمام اكتشاف ومشاهدة المزيد رغم الصعوبات التي واجهت المنظمين في إيصال بعض الأعمال إلى بيروت، مثل عمل الفنانة رنا بشارة المبرمج في المعرض لكنّه موجود في الكاتالوغ فقط.
* ناقدة وقيّمة فنية