قد يكون الانبهار بمفهوم الملِكة في الماضي مبرَّراً ومنطقياً حتى. تصوَّر أنك شخص يعيش في عام 1952، تعيش على تشرُّب الأساطير عن الملوك ودمهم الأزرق اللون، ثمّ يموت ملك بريطانيا وتتسلّم ابنته الفتيّة المُلك. تنتظر لأكثر من عام لتتعرّف على هذه الحاكمة الغامضة التي تتوَّج لأوّل مرّة في التاريخ أمام كاميرات النقل المباشر التلفزيونية. إليزابيت الثانية، الفتاة العشرينية الأنيقة، هي نجمة الاستعراض الذي كلّف أكثر من خمسين مليوناً من دولارات اليوم، وتتبرّج بالجواهر التي تبرق حتى في البثّ الأبيض والأسود، إذ لم تكن تقنية البثّ بالألوان قد انتشرت بعد، ويحيط بها ممثِّلو الله على الأرض بصولجاناتهم المبهرجة ليكلّفوا الفتاة المتوَّجة بالتاج المرصَّع بأثمن الأحجار بمهمّة قيادتهم، في مشهدية تستعيد كلّ أمجاد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. يقال إن كلّ شاشة تلفاز صغيرة في حينها كانت تحشد عيون سبعة عشر مشاهد كمعدّل، يتلصّصون على الملكة ومَن حولها علّهم يرون أبطال حربهم مثل ونستون تشرشل أو خدَمهم الأوفياء والأقوياء في المستعمرات، أو يتعرّفون على أفرادٍ آخرين من آل وندسور، كالطفل وليّ العهد الذي انتظر لأكثر من سبعين عاماً ليمتطي العرش. دعونا نتناسى العقود السبعة هذه، ولنقفزْ إلى تتويج هذا الطفل، تشارلز الثالث.لا نعرف إذا ما كان سوف يحضر أخوه أندرو الاحتفال، ولكن نعرف أن أخاه مغتصب أطفال كما افتُضح في ملفّات قوّاد المشاهير «المنتحر» جيفري إبستين. كما نعرف أن ابنه الثاني من زوجته الأولى ديانا، هاري، انشقّ عن العائلة بحثاً عن تحسين نسلها على رغم امتعاض الجدّة الملكة من زواجه بامرأة ذات بشرة تفوق بشرة سلالتهم الملكية قدرة على امتصاص أشعة الشمس. هذا، ونعرف أنه عندما كان هاري طفلاً، كان والده يخون والدته الراحلة مع خليلته كاميلا، الملكة الجديدة، وقال لها في حديث هاتفي مسرّب في عام 1993: يا ليته فوطة صحّية في سروالها! ورغم ذلك، قد يكون تشارلز أقوى شخصيةً من ابنه ووليّ عهده، «طربون الحبق»، وليام.
لا مجال للانبهار بأيّ شيء يمكن أن تقدّمه العائلة المالكة البريطانية اليوم. حتى احتفال التتويج سوف يكون مهزلة تاريخية، إذ إن بعض أعراس ناهبي المال العام اللبناني تَفوقه إسرافاً وتصنّعاً. كما أنه اليوم، الكلّ يعرف من أين سُرقت كلّ جوهرة من جواهر العرش، التي طالما تباهى بها ملوك المستعمِرين على أنها عرابين صداقة من خلْف البحار. أمّا بالنسبة إلى حكّام بريطانيا الفعليين الذين سينالون مباركة الملك الجديد، فحتى قبل أيام من وفاة إليزابيث، كان مهرّج الصفّ بوريس جونسون في الحٌكم ليسلّمه عند طرده من «داونينغ ستريت» عقب فضائحه المتعاقبة، إلى نسخة نسوية منه قد تكون أغبى منه. من المستبعد أن تدوم ليز تراس حتى التتويج الذي غالباً يكون بعد عام من الحداد على الملكة الراحلة، لكن تشارلز، كونه الأكبر عمراً في تاريخ المملكة عند تسلُّم العرش، قد يستعجل الأمور بعض الشيء. لستُ في وارد تقديم النصائح للإمبراطورية، لكن لو كنتُ مكان تشارلز، لا سمح الله، لألغيتُ مراسم التتويج. فكاميرات البثّ التلفزيوني اليوم غير تلك التي بثّت مراسم تتويج «الستّ الوالدة»، وتكنولوجيا «4K» في دقّة الصورة لا ترحم. طبعاً، لا نتحدّث فقط عن قباحة الملك في عمره المتقدّم، إذ إنه لم يكن جذّاباً حتى في شبابه، لكن الحدث يقع في لندن الموبوءة بالجرذان، فمَن يضمن ألّا تلتقطها الكاميرات وتسرق الأضواء من جلالته؟
خلْف البحار المشهد مختلف، فالاحتفالات بوفاة الملكة طالت أرجاء الإمبراطورية البريطانية في عزها. من إيرلندا «الجارة» حيث هتافات جماهير كرة القدم احتفت بأن «ليزي باتت في صندوق»، إلى «نهاية العالم» في الأرجنتين حيث تدفّقت الشامبانيا والشتائم في برنامج تلفزيوني احتفالاً بلمّ الشيطان لـ»زبالته» من هذه الأرض. لسنا مضطرّين إلى أن نعدّد مساوئ الميّتة وبلادها في منطقتنا والعالم، فلا تتّسع الصفحات لتعدادها. يكفي أن نحتفل ونحن نشاهد احتضار إحدى أسوأ الإمبراطوريات التي عاثت بأرضنا فساداً.