يعود القضاة الشرعيون في المحاكم السنيّة بالذاكرة إلى عام 2014، قبل أيّامٍ قليلة من انتخاب الشيخ عبد اللطيف دريان مفتياً للجمهوريّة. يومها دعاهم المفتي، الذي كان رئيساً للمحاكم الشرعية، إلى اجتماعٍ في مكتبه «وأغدق علينا وعوداً بالإصلاحات داخل المؤسسات الدينية والقضائيّة وتعهّد بأنه سيكون دوماً إلى جانبنا»، بحسب ما يروي بعض من حضروا اللقاء. أقصى طموحات هؤلاء اليوم «أن نلتقي المفتي» الذي يرفض استقبال القضاة الشرعيين في دار الفتوى، باستثناء أعضاء المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى.ويزيد من استياء هؤلاء ما يُنقل إليهم عن دريان قوله إن «القضاة الشرعيين مرفّهون»، هم الذين لم تعد رواتبهم تكفي لتأمين مصاريفهم اليوميّة، فيما يعاني صندوق التعاضد الخاص بهم عجزاً بقيمة 3 مليارات ليرة، وترفض المستشفيات استقبالهم ما لم يتم الدفع بالدولار. بعضهم نقلوا أولادهم من مدارس خاصة إلى رسمية، وآخرون يساعدهم أفراد من عائلاتهم يقيمون في الخارج، وأحدهم جمع له زملاؤه «لمّية» لإجراء عملية جراحية. فيما تم استثناؤهم من المساعدة القطريّة التي خُصّصت لدعم العاملين في الجهازَين الإداري والديني، وكذلك من المساعدة الاجتماعية التي تلقاها القضاة العدليون من القضاة العراقيين، ولم يشملهم قرار صرف رواتب القضاة العدليين لمرة واحدة على سعر صرف 8 آلاف ليرة.
«ما يحز في نفوسنا أنّنا متروكون لقدرنا ولم يُحرّك المفتي، باعتباره رئيساً لمجلس القضاء الشرعي، ساكناً للمطالبة بحقوقنا، ولم يطالب على الأقل بأن يشملنا أي قرار لتحسين رواتب القضاة العدليين»، يقول أحدهم لـ«الأخبار». جل ما حصلوا عليه هو ما سمعوه بأنهم قد يستفيدون من اعتماد بقيمة 35 مليار ليرة سيتم تحويله إلى صندوق التعاضد الخاص بالقضاة، علماً بأنّ القضاة العدليين يرفضون هذا الطرح.
«رايحة علينا»، يقول قضاة شرعيون عاتبون على دريان الذي لم يقم بأي مبادرة فعليّة، بل على العكس «يقوم بتفشيل الحلول المطروحة. أوّلها كان رفضه العمل على استجلاب هبة سعوديّة إلى صندوق التعاضد الخاص بنا، وآخرها كان حينما اتفق القضاة أخيراً على إقامة وقفيّة خاصة بهم تؤمن لهم آلية قانونيّة لجمع التبرعات والهبات المحليّة والخارجيّة». ويوضح هؤلاء أن رئيس المحاكم الشرعيّة الشيخ محمّد عسّاف تحمّس للفكرة، وطرحها في عائشة بكار التي ردّته خائباً، إذ اعتبر دريان أنّها غير قانونيّة وتحتاج إلى نظامٍ داخلي. «عندما صغنا النظام الداخلي، سافر المفتي وتذرّع بأنّ لا وقت لديه لقراءته. وبعد عودته رفض الطرح». لا يملك هؤلاء سبباً واحداً يستدعي رفض الفكرة التي تحل مشاكلهم، سوى ما نُقل عن دريان، في اجتماعٍ للمجلس الشرعي أخيراً، بأنه سيعمل على «تجفيف منابع تمويل جميع الجمعيات السنيّة ما لم تمر عبره»، خصوصاً أنّ اتخاذ القرار بقبول التبرّعات لهذه «الوقفيّة» يبت به القضاة الشرعيون وليس المفتي.
يدرك القضاة بأنّ المفتي قد لا يكون قال ذلك فعلاً. «لكن أداءه يقول ذلك». ويروون أنّ أحد مفتي المناطق طلب من السفير السعودي وليد بخاري بأن تمدّ بلاده يد العون للقضاة الشرعيين، فطلب الأخير لائحة بأسماء القضاة، ولكن ما إن وصلت الرواية إلى «عائشة بكار» حتى «ثارت ثائرة المفتي ودخل على الخط، وقدّم لبخاري لائحة تضم أكثر من 1800 اسم شملت مشايخ مع القضاة لعلمه بأنّ السفير سيرفض هذا الطرح».

تشكيل نادٍ للقضاة الشرعيين؟
كلّ ذلك، أوقع القضاة في أزمة. لا هم قادرون على اتخاذ قرار الاعتكاف، ولا السكوت عن حقّهم، معتبرين أنّه «لا يُمكننا الدعوة إلى الإضراب ما دام رئيس مجلس القضاء الشرعي لا يُساندنا، على عكس تصرّف مجلس القضاء مع القضاء العدلي إذ تبنّى مطالبهم ودعا إلى جمعيّة عموميّة»، علماً أنّ هؤلاء يكنّون المودّة لعسّاف، لكنهم يأخذون عليه قربه من دريان ودفاعه المستميت عنه وضغطه على القضاة لثنيهم عن الاعتكاف وعدم إغضاب «سماحته». ومهما يكن من أمر، فإن عدداً من القضاة ينسّقون في ما بينهم لعقد اجتماع والإعلان عن الإضراب.
ولكن ليس هذا ما يقضّ مضجع دار الفتوى، وإنّما ما بدأ يسري على ألسنة القضاة من إمكانيّة تشكيل نادٍ للقضاة الشرعيين. يقول القضاة المتحمّسون لفكرة النادي بأن «هدفها المطالبة بحقوقنا وليست موجّهة ضد أحد»، فيما فهمها دريان على أنّها رسالة موجّهة ضدّه على اعتبار أن الكيان الجديد «يخربط» دور الدار ويأخذ من صلاحيات المفتي لكونه رئيساً للقضاء الشرعي.
وما استفزّ دريان أكثر، بحسب المصادر، هو أن الطرح صادر عن القاضي المستشار عبد الرحمن المغربي الذي يجري تداول اسمه منذ فترة لخلافة دريان بعد إحالته على التقاعد بعد نحو عامين. علماً أن المغربي أقدم قاضٍ من بيروت وأعلاهم درجة. هي إذاً معركة الإفتاء بدأت، يقول بعض القضاة الذي يشيرون إلى «أننا لا نرى في المغربي إلا قاضياً مسالماً تجرأ على رفع الصوت عنّا جميعاً والمطالبة بحقوقنا، فيما دريان لا يراه إلا خصمه الذي قد يرث الدار من بعده». ويلفت هؤلاء إلى أن دريان، رغم أنه يردّد أمام زواره أنه لن يبقى دقيقة واحدة في الدار بعد بلوغه السن القانونيّة، إلا أنّ «ما يقوم به يشي عكس ذلك، إذ يعمل على إضعاف كل المرشحين الظاهرين». ولذلك، يعمد إلى سياسة «ضربهم ببعضهم البعض». وهنا، تحديداً، يتخوّف القضاة الشرعيون من حدوث انقسام بين عسّاف والمغربي وتدهور الأحوال داخل المحاكم تمهيداً لاستغلالها سياسياً، خصوصاً أن اسم عسّاف يتم التداول به أيضاً لخلافة دريان، مع قليل من التحفّظ بسبب صغر سنّه وإمكانية بقائه في المركز لفترة طويلة كما حدث مع دريان. بالنسبة للقضاة، يريد المفتي من عسّاف أن «يقص أجنحة» المغربي ليتخلّص منه ويخوض المعركة بالنيابة عنه، قبل أن يتمرد القضاة على عسّاف، وبذلك يكون قد «طيّر» اثنين من المرشحين لخلافته.
فهم دريان من نية تشكيل ناد للقضاة الشرعيين رسالة ضدّه لـ«خربطة» دور الدار والنيل من صلاحياته كونه رئيساً للقضاء الشرعي


القضاة الشرعيون متأكدون أن الأمور ذاهبة نحو التصعيد وأن انقساماً كبيراً سيحدث، ويحمّلون دريان مسؤوليته لأنه يقوم بـ«كب الزيت على النار» بدلاً من حماية حقوقهم والحفاظ على وحدة الجسم القضائي الشرعي بدلاً من استخدامه. ولذلك، يشدّدون على أنّ فكرة نادي القضاة لن تبقى فكرة بل سيعملون على تنفيذها ولو أثارت استياء دار الفتوى. فيما يلفت آخرون إلى أنهم بصدد القيام بجولة على مرجعيات سياسية وديبلوماسية يُحسب دريان عليها للضغط عليه!
واستقبل دريان أمس رؤساء المحاكم الشرعية السنيّة الشيخ محمّد عسّاف والجعفريّة الشيخ محمّد كنعان والمذهبيّة الدرزية فيصل ناصر الدين الذين عرضوا عليه ما تُعانيه المحاكم الشرعية، على أن يقوموا بجولةٍ على المسؤولين لإطلاعهم على الوضع. وتشير المعطيات إلى أنّ رؤساء المحاكم أتوا لأخذ مباركته بالجولة التي سيقومون بها باعتباره رئيس مجلس القضاء. فيما لا يراهن القضاة على هذه الجولة، خصوصاً أن «المعنيين لم يأخذوا موعداً واحداً من الرؤساء بعد».
وفي هذا السياق، يؤكّد كنعان لـ«الأخبار» أنّ «القانون يُساوينا بالقضاة العدليين، ونحن نبذل قصارى جهدنا كي تبقى المحاكم مستمرة»، رافضاً لفكرة الاعتكاف «لأنني أرفض إيقاف المعاملات الخاصة بالأيتام، فنحن نعمل لأهلنا وناسنا».