بالمنطق نفسه الذي تدير فيه السلطة السياسية الدولة منذ الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، يتم فرض رفع الدولار الجمركي في غياب أي إصلاح أو خطة واضحة لضمان عدم تسريع التضخّم. فبعدما قرّر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بالاتفاق مع وزير المال وغالبية الوزراء، تغطية زيادة الرسم الجمركي 13 مرة، ألقى ميقاتي القرار في أحضان مجلس النواب كحلّ للخلاف الذي نشب مع الرئيس نبيه بري بشأن تحميل وزيره مسؤولية اتخاذ القرار. محور الحلّ، رأي استشاري من مجلس شورى الدولة صدر قبل ثلاثة أسابيع وتجاهله ميقاتي وقتها، يفتي بأن لا صلاحية للحكومة في التشريع المالي واحتساب الضريبة الجمركية
يسير الدولار الجمركي وفق الاستراتيجية نفسها التي سلكت فيها كل المراسيم والقوانين والقرارات التي أعدّت لإعدام الطبقات الوسطى والفقيرة، أي بلا خطّة واضحة ترسم طريق التعافي. فما إن سُرِّب كتاب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الموجّه إلى وزير المال يوسف خليل، والذي يطلب فيه اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحديد سعر الدولار الجمركي بالصيغة التي اقترحها خليل، حتى انطلقت حفلة تقاذف المسؤوليات بين الاثنين، ولا سيما أن رئيس مجلس النواب نبيه بري اعتبر الأمر موجّهاً ضدّه. وما لبثت أن اتسعت دائرة التقاذف وانخرطت فيها كل القوى السياسية، لينتهي الأمر بسحب الكتاب ريثما يتم التوافق على صيغة أو آلية أخرى. بالطبع لم يكترث اللاهثون وراء مضاعفة الرسوم الجمركية 13 مرة، إلى إعداد دراسة جدّية حول الأثر الاقتصادي والاجتماعي، بل ركّزوا على الأثر المالي على الخزينة حصراً. بل حرص ميقاتي على دعوة الوزراء إلى اجتماع لتأمين تغطية لهذه الضريبة الإضافية رغم كون الحكومة مستقيلة ورغم كل الخلافات الداخلية بين أعضائها.
فعلياً، تعود قصة الدولار الجمركي إلى عهد حكومة حسان دياب. وبدأ الأمر برسالة موجّهة من مدير الواردات في وزارة المال لؤي الحاج شحادة إلى المدير العام للمالية بالإنابة جورج المعراوي (تشرين الأول 2020)، يطلب فيها احتساب الدولار الجمركي على سعر الصرف في السوق الموازية. يومها، تأجل الحديث بحجّة دراسة الأمر بين وزير المال غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وفي منتصف العام الماضي، عقدت اجتماعات مع خبراء ترمي إلى وضع دراسة حول آلية رفع قيمة احتساب الدولار على المستوردات، إنما كان الهدف الأساسي هو رفد خزينة الدولة بالإيرادات. لم يكمل وزني «دراسته» جراء استقالة الحكومة، لكن ميقاتي والخليل تذرّعا بحجّة تمويل زيادات رواتب القطاع العام لتبرير الأمر. وغداة إضراب الموظفين في الإدارات العامة والرسمية وُضع القرار على نار حامية. فأعدّ ميقاتي في نهاية تموز الماضي، مرسوماً استثنائياً موقعاً منه ومن وزير المال وأرسله إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ليحصل على موافقته الاستثنائية تمهيداً لوضعه حيّز التنفيذ. لكن عون ردّ المرسوم بالاستناد إلى رأي مجلس شورى الدولة حول عدم قانونيته، إضافة إلى عدم وجود دراسة تشرح تداعيات هذا القرار على الأسعار وتأثيره على الأساسيات والكماليات في ظل غياب الرقابة. كذلك أشار عون إلى تناقض هذا الرسم الجديد، مع البند الوارد في الخطة الحكومية المالية عن توحيد سعر الصرف.
بينما تتلهى قوى السلطة بتقاذف مسؤولية إقرار الدولار الجمركي بدأ التجّار يرفعون الأسعار


في غضون ذلك، كان يجري الإعداد لاجتهاد قانوني يسمح لوزير المال وحاكم مصرف لبنان بتعديل الرسوم الجمركية من دون الحاجة إلى مرسوم أو موافقة استثنائية مذيلة بتواقيع رئيسيّ الجمهورية والحكومة ووزير المال. وبالفعل رسا الاختيار على المادة 229 من قانون النقد والتسليف لتكليف خليل بالتنسيق مع سلامة تحديد سعر الدولار الأميركي من أجل احتساب قيمة البضائع الواجب التصريح بها للجمارك. وترجم هذا الخيار في رسالة وجهها ميقاتي إلى الخليل بعد اجتماع وزاري في السراي الحكومي اتفق فيه على رفع الدولار الجمركي إلى 20 ألف ليرة لبنانية. غير أن الخليل رفض تسلّم الكتاب أو توقيعه بإيعاز من رئيس مجلس النواب نبيه بري اعتراضاً على تحميله مسؤولية زيادة هذا الرسم منفرداً عبر إيراد عبارتيّ «العرض المقدّم من قبلكم» و»تحديد سعر الدولار على الوجه المعروض من قبلكم».
بعد ذلك، عقد اجتماع بين ميقاتي والخليل خلص إلى تكليف الخليل بإعداد صيغة جديدة مناسبة للجميع، علماً بأن مصادر وزارية أشارت إلى أن الخليل هو من اقترح خلال الاجتماع الوزاري، احتساب الدولار الجمركي على سعر الصرف في السوق الحرّة، لكنه عاد عن ذلك واقترح سعر الـ20 ألف ليرة نتيجة اعتراض زملائه.
وأمس، دخلت هيئات أصحاب العمل بثقلها في الأمر، فزارت ميقاتي وسجّلت اعتراضها على رفع الدولار الجمركي إلى 20 ألف، مقترحة تحديده ما بين 8 و10 آلاف ليرة لبنانية. وأعلن الوزير السابق محمد شقير بعد الاجتماع أن «ميقاتي أوضح بأن الموضوع يلزمه اقتراح قانون من مجلس النواب وعلى مجلس النواب أن يتخذ قراراً في شأنه».
إذاً، وجد رئيس الحكومة حبلاً جديداً ليعلّق عليه «تسويفاته» بنقل الصراع الحاصل بينه وبين وزير المال إلى أحضان مجلس النواب، رغم أنه قفز فوق رأي مجلس شورى الدولة بوجوب استصدار قانون، ثم انسحب من المشهد تاركاً الطابة في ملعب مجلس النواب.



مجلس الشورى: التشريع المالي ليس من صلاحية الحكومة
بناء على طلب وزارة المال، أصدر مجلس شورى الدولة رأياً استشارياً بتاريخ 28/7/2022 حصلت «الأخبار» على نسخة منه يشير فيه المستشارون لمى أزراقيل وكارل عيراني والرئيس فادي الياس، إلى أن القانون رقم 93 يعطي الحكومة «تفويضاً تشريعياً في الحقل الجمركي من خلال تحديد الرسوم والتعريفات الجمركية حصراً وليس تحديد كيفية احتسابها». وأشار إلى أن ما طلبه وزير المال «لا يدخل ضمن نطاق تطبيق التشريع الجمركي وإنما يتعدّاه ليشمل نطاق التشريع المالي كونه يتناول أمراً مالياً بحتاً يتعلّق بسياسة الدولة المالية، وهو بصفته تلك يدخل حصراً ضمن اختصاص مجلس النواب ويحتاج إقراره إلى نص تشريعي مستقل عن النصوص المتعلقة بحق التشريع الجمركي».
وكان الوزير يوسف الخليل، قد استند في الكتاب الموجّه إلى المجلس بعنوان «تحديد سعر الدولار الجمركي من أجل احتساب قيمة البضائع الواجب التصريح بها للجمارك»، إلى المرسوم رقم 4461 بتاريخ 15/12/2000 (قانون الجمارك) والقانون رقم 93 تاريخ 10/10/2018 (منح الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي)، طالباً الاطلاع على مشروع المرسوم المتعلق بتحديد سعر الدولار الجمركي «وفق سعر الصرف الأعلى للدولار الذي اعتمده مصرف لبنان خلال الأشهر الثلاثة السابقة للشهر الذي يتم فيه تسجيل البيان التفصيلي والتي يحددها بشكل دوري أو شهري مصرف لبنان».