هي معركة «الحضارة» ضد «البربرية». غالبية التعليقات وردود الأفعال الغربية على الهجوم الذي استهدف سلمان رشدي هي بمثابة التنويعات على هذا النغم الواحد، الذي لحّنه قادة «العالم الحر». هي رأت في رشدي «تجسيداً للحرية ومحاربة الظلامية»، كما قال ماكرون، والرجل الذي «رفض الترهيب والإسكات»، وفقاً لبايدن، وشدّدت على أن محاولة اغتياله هي «اعتداء على حريتنا وقيمنا»، على حد تعبير لابيد. تندرج هذه المحاولة، بنظر جميع هؤلاء، في إطار المواجهة المزمنة والعامّة بين الحرّية، التي تشكّل أهم مرتكزات الحضارة الرأسمالية الغربية، وبين أعدائها الشموليين، من غير الغربيين أساساً، والدائرة رحاها اليوم في أنحاء الكوكب، من أوكرانيا ومضيق تايوان، مروراً بالشرق الأوسط، ووصولاً إلى مدن الغرب الأورو-أميركي. أمّا في جنوب العالم، وبخاصة في الفضاء الممتد من بين طنجة وجاكرتا، الذي وصفه أحد الجنرالات الأميركيين في أواخر التسعينيات بـ«قوس المجازر»، متناسياً أن يضيف بفعل سياسات بلاده، فإن مواقف الأكثريات الشعبية تتراوح بين اللامبالاة الكاملة والتأييد العلني لاستهداف رشدي. لا وجود لتعاطف معه سوى في أوساط أقلية، مجهرية ولكن مرتفعة الصوت، تعرّف نفسها على أنها «تنويرية وتحديثية»، تماهياً مع «المدنية المعاصرة»، وتمايزاً عن «الدهماء» المحلية، والتيارات الفكرية والسياسية التي تمثّلها. لا ينطبق هذا التوصيف، أي في الحد الأدنى غياب التعاطف مع رشدي، على مواقف شعوب العالم الإسلامي وحدها، بل كذلك على مواقف السواد الأعظم من الصينيين والروس والهنود، ومن شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية. كشفت الأزمات الدولية الأخيرة بين الغرب وبين روسيا والصين مدى عمق الشرخ الذي يفصل الأوّل عن بقية العالم، والأمر نفسه ينسحب على «قضية رشدي». هو تحوّل بملء إرادته، ومنذ صدور رواية «آيات شيطانية»، إلى أيقونة غربية توظف لتلميع صورة «الإمبريالية الحميدة» وتقديمها على أنها «أهون الشرور»، وللتهويل بـ«التهديد الإسلامي»، ولن يجد بين المكتوين بنار الغرب ماضياً و/أو حاضراً تعاطفاً يذكر.
القابلية للتوظيف ومسؤولية المثقف
يقرّ بعض المدافعين عن رشدي من حسني النية بأن القوى الغربية سعت، منذ بداية الأزمة المرتبطة برواية «آيات شيطانية»، إلى استغلالها للتحريض على المسلمين، وتبرير سياسات الحرب والتدخل والهيمنة. غير أنهم يرفعون عنه أية مسؤولية في هذا الأمر، مذكرين بمواقفه النقدية حيال السياسات الغربية في بلدان الجنوب، وبجميع أشكال الظلم والتمييز الاجتماعي، والتي تجلت في روايتيه «بسمة الفهد» و«العار». هم يتناسون أن رشدي ارتضى أن يتم مثل هذا التوظيف عندما لم يرفض دفاع قادة الغرب الإمبريالي عنه، وأجهزة دعايته الأيديولوجية-الإعلامية. مسؤولية المثقف الأولى هو أن يحافظ على مسافة نقدية حيال أية سلطة، فكيف إذا كانت سلطة الغرب الإمبريالي الذي أخضع ونهب جنوب الكوكب خلال القرون الـ5 الأخيرة؟ لم يفعل رشدي ذلك لا عن خوف، بل عن قناعة تشاطره إيّاها فلول من اليساريين المرتدين، بأن الصعود الإسلامي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أكثر خطراً على الحريات الفردية ونمط الحياة «الحديث» من الإمبريالية نفسها.
هم يتناسون أن رشدي ارتضى أن يتم مثل هذا التوظيف عندما لم يرفض دفاع قادة الغرب الإمبريالي عنه


«التهديد الإسلامي»
تزامن صدور «آيات شيطانية» مع نمو الدور السياسي والاجتماعي للحركات الإسلامية وانحسار الأيديولوجيات اليسارية، مع استفحال الأزمات في الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، التي أفضت إلى انهياره وتفككه خلال الأشهر والسنوات التي تلت. لكن في الواقع، فإن الالتفات إلى وجود «تهديد إسلامي» بين نخب الغرب السياسية والثقافية حصل قبل 10 سنوات من هذا التاريخ، أي في 1979مع انتصار الثورة في إيران. لقد كان لهذا الانتصار وقع الزلزال في الفضاء العربي-الإسلامي، وفي جنوب العالم، حيث حظيت هذه الثورة بتأييد واسع واعتبرت دليلاً على الطاقة الثورية الكامنة في الإسلام، القادرة على إطاحة أحد أعتى الأنظمة الديكتاتورية المرتبطة بالغرب. حارب الأخير ما سمّاه «الخطر الشيوعي»، أي حركات التحرر الوطني في بلدان الجنوب، لعقود، ولم يتورع عن محاولات استخدام الدين في هذا المضمار. غير أنه أيقن، بعد الثورة في إيران، أن تأويلاً مختلفاً للدين يستطيع أن يحوله إلى سلاح فعّال بالنسبة للجماهير المليونية الطامحة للتغيير والتحرر من الاستبداد المحلي والهيمنة الاستعمارية. هذا ما يفسر دعم الغرب للعراق في حربه الطويلة والدموية ضد إيران، وتقاطعه في ذلك مع أنظمة الخليج وحتى مع الاتحاد السوفياتي خلال السنتين الأخيرتين من هذه الحرب. «التهديد الإسلامي» من منظور قادة الغرب ونخبه كان ذلك المتمثّل في ما صنّفوه مدّاً ثورياً يهدد مصالحهم ومصالح حلفائهم. هذه هي الخلفية التي حدت بهم للاحتفاء بـ«آيات شيطانية» وبمؤلفها، وبتأمين الحماية الأمنية له على مر العقود. أمّا الأخير، ومعه مجموعة من اليساريين الخائبين من إمكانية التغيير، فقد انتقلوا من اعتبار الإمبريالية العدو الأوّل للشعوب إلى النظر إليها على أنها، وبفضل الطبيعة الديموقراطية لنظمها، «أهون الشرور» مقارنة بالمشروع «الشمولي والقروسطي» للحركات الإسلامية.

«أهون الشرور» الحميدة
سينبري بعض المدافعين عن رشدي، للدلالة على تمايزه النقدي عن بعض سياسات الغرب وممارساته، بالتنويه إلى إدانته للأوجه الأكثر فجاجة لهذه الممارسات، كجرائم العنصرية التي ترتكبها من حين لآخر الشرطة الأميركية، أو بتحذيره من الميول الاستبدادية لدونالد ترامب، أو بمطالبته بمعاملة رهائن معتقل غوانتنامو باعتبارهم أسرى حرب. هو قام بذلك بالفعل، لكن دافعه كان الحرص على السمعة الديموقراطية للولايات المتحدة. شرح ذلك بنفسه في مقال ارتكبه في «الغارديان» في 6 شباط 2002 بعنوان «الأنتي-أميركانية تجتاح العالم»، رأى فيه أن «دروس التدخل الأميركي في أفغانستان يتم استيعابها عبر العالم. لم يعد الجهاد مسألة سهلة كما كان حتى الخريف الماضي. الدول المتهمة بمساعدة الإرهاب غيّرت من سلوكها لدرجة تسليمها لبعض الأشرار. إيران اعترفت بشرعية الحكومة الأفغانية الجديدة... أميركا قامت في أفغانستان بما ينبغي القيام به، وفعلت ذلك جيداً». بعد ذلك يهاجم رشدي جميع معارضي الغزو الأميركي، ويعزو ذلك، بالنسبة للعرب والمسلمين بينهم، إلى البحث الدائم لدى «الدول الإسلامية عن ستار دخاني للتغطية على فساد أنظمتها وانعدام كفاءتها، واضطهاد مواطنيها وتخلفها الاقتصادي والعلمي والثقافي». هو يشيد برغبة وزير الخارجية الأميركي آنذاك، كولين باول، بمنح معتقلي غوانتامو وضعية معتقلي الحرب، والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ لأنه عجز عن إقناع بوش الابن بها، ليختم بالتأكيد على «أننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج أن تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية وقدرتها الاقتصادية بمسؤولية». لمن كان بعض الشك يراوده حول رشدي المثقف، هو يتكلّم من موقع مستشار «الأمير» وناصحه، من دون أية مسافة نقدية! يقف على أرضية الإمبراطورية العاتية ويضرب بسيفها ويبدي بعدها بعض الملاحظات السطحية.
بين السمات الرئيسية لعالم اليوم استشراء العنف وامتداده ليشمل المراكز الإمبريالية التي نعمت بالأمن لعشرات السنين بينما كانت تنشر القتل والدمار في القسم الجنوبي من المعمورة. وفي ظل حروب محتدمة، وأخرى محتملة، بالتوازي مع تراجع قدرة الغرب على السيطرة، سنشهد نهاية للملاذات الآمنة، واتجاهاً متزايداً لجماعات وأفراد للجوء إلى العنف لتحقيق أهدافهم، بمعزل عن خلفياتهم. رأينا ذلك في السنوات الأخيرة في فرنسا وفي نيوزيلندا وفي واشنطن وأخيراً في نيويورك. هناك من اعتقد أن بإمكانه إشعال الحرائق في أنحاء الكوكب وأن يحمي نفسه من نيرانها، وقد أخطأ في ذلك.
* كاتب من أسرة «الأخبار»