عندما وطأت أقدام شقيقين من عشيرة زريقات الساحل اللبناني عام 1600 تقريباً، قرّرا أن يفترقا؛ الأول توجّه جنوباً وحمل أحفاده، بحسب ما يتناقل أبناء عشيرة زريقات اليوم، اسم الأسعد، ومنهم تتحدّر عائلة الأسعد الإقطاعية التي تزعّمت جبل عامل، فيما استوطن الثاني ساحل إقليم الخروب، واستملك أحفاده الذين حمل بعضهم اسم آل الأسعد أيضاً معظم الأراضي في السعديات والدامور، وعملوا في الزراعة وتجارة المواشي.لم تكن علاقات عشيرة زريقات مع العثمانيين جيدة، فقد رفض أبناء العشيرة تسجيل أسمائهم في الإحصاءات العثمانية خوفاً من تجنيدهم في الجيش وإرسالهم إلى الحرب. مع انحلال الدولة العثمانية ودخول الفرنسيين، تحوّلت المنطقة التي يقطنها أبناء الزريقات معبراً حدودياً يفصل بين فلسطين المنتدبة بريطانياً (من الجية باتجاه الجنوب) وسوريا المنتدبة فرنسياً (من السعديات باتجاه بيروت)، ما أدى إلى انتعاش أوضاعهم الاقتصادية. وقد شارك أبناء العشيرة في بناء «الحائط الفرنساوي» لتحديد المنطقة المنتدبة من قبل الفرنسيين، وجسر الدامور القديم وسكة الحديد تحت إشراف الفرنسيين. وانضمّ بعضهم إلى الجيش الفرنسي، وبقيت عائلاتهم تتقاضى رواتبهم التقاعدية بعد وفاتهم.

(مروان بوحيدر)

يحفظ أبناء عشيرة الزريقات للجيش الفرنسي «جميله» في تحديد الأراضي التي كانوا يسكنونها، وإصدار الصحائف العقارية للسعديات باسمهم، رغم إدراكهم أن الفرنسيين، في المقابل، عمدوا إلى قضم أراض تابعة لهم وتوزيعها على عائلات في بلدات مجاورة. مع مرور السنوات، بدأ بعضهم ببيع أراضيهم. وكانت «الضربة الكبرى» عندما قررت عائلة البشير، من العشائر، عام 1955، بيع أكثر من 600 ألف متر مربع تضم القصر التاريخي لأحد وجهاء العشائر الأمير البشير إلى موريس العضيمي، للانتقال إلى بيروت والعمل في تجارة المواشي ثم في المسلخ، ليطلق عليهم لاحقاً اسم «عرب المسلخ».

عرب شمعون
وعلى المنوال نفسه سار آل الأسعد بهدف تكبير حجم تجارتهم في المواشي، بعدما فاتحهم «صديقهم» كميل شمعون برغبته في شراء أرض للسكن قرب شاطئ البحر، فكان له ما أراد، و«طلبت الست دهيبة من أبنائها أن يبيعوا لشمعون أرضاً كانوا يملكونها في الدامور تبلغ مساحتها 22 ألف متر مربّع مقابل 20 ألف ليرة».
لم يكن «الأستاذ» حينها رئيساً للجمهورية، بل محامياً يعشق الصيد ويمارسه في أراضيهم، كما كان يفعل والده نمر شمعون من قبله، ما أدى إلى توطّد علاقته بآل الأسعد الذين كان يتردّد إلى منزلهم دائماً، و«يجلس داخل حقل الصبير الذي يحبّه». وبفعل هذه العلاقة بات المحامي البارز ملجأ لأبناء العشائر العربية لحل قضاياهم. هكذا، تحوّل أبناء العشائر «شمعونيين»، وتعصّبوا لدير القمر بعد وصول ابنها إلى سدة رئاسة الجمهوريّة. بعد الرئاسة، لم يتغيّر تعامل شمعون معهم، بل ازدادت الروابط عمقاً، و«كنّا ندخل إلى غرفة نومه»، يقول أحد أبناء العرب من آل شاهين. بقي شمعون يتردّد إلى السعديات وأمّن وظائف لعددٍ كبير من أبناء العشائر في الـ«ميدل ايست» والـ«ريجي» وبعض المصارف، فبادلوه بالولاء.
لكن سرعان ما تعرّضت العلاقة بين الطرفين لنكسة عام 1956، عندما طلب أبناء العشائر من شمعون إذناً لتشييد مسجد «كي نصلي على أمواتنا داخله»، وفق ما يقول أحد وجهاء العشيرة، إلا أنه رفض مفضّلاً أن تبقى المنطقة من دون وجهة دينيّة. غضب العرب من شمعون، وأصغوا لنصيحة أقاربهم من عرب المسلخ الذين كانت تربطهم علاقات مميزة بكمال جنبلاط، فقصدوا المختارة. وافق «البيك» على مطلبهم وأخرج دفتر الشيكات للمساهمة في كلفة بناء المسجد، إلا أن إهانة وجّهها أحد الحاضرين في حق شمعون أغضبت جنبلاط الذي تراجع عن الموافقة. هكذا بقي أبناء العشائر على شمعونيّتهم، لكنهم كنّوا الودّ لخصمه التاريخي كمال جنبلاط الذي كان يدعوهم إلى خلوته في جدرا. رغم ذلك، بقي شمعون «الجبل» الذي يتكئون عليه... قبل الانفصال التام مع اندلاع الحرب الأهلية، عندما جعلهم الاصطفاف الطائفي يميلون إلى حركة فتح التي كان مسؤولوها يؤمّنون المساعدات والحماية الأمنية لأهالي السعديات رغم أن أيّاً منهم لم ينتظم في «فتح». فتح ذلك الباب أمام تحسين علاقتهم مع وليد جنبلاط من دون أن يُشاركوا في الحروب التي دارت حولهم في الجبل، وسرعان ما صارت العلاقة مميزة مع تسلّم «البيك» وزارة المهجرين، إذ «عوّض علينا بحقوقنا وحبّة مسك فوقها، بعد تهجيرنا وقصف منازلنا لأكثر من مرة من قبل العدو الإسرائيلي وأدواته في الداخل»، بحسب ما يشير أحد أبناء العشيرة.
لاحقاً، اعتبرهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي أحد عناصر القوة لحماية مدخل الجبل. فوفّر لهم المياه والكهرباء والزفت والحماية الأمنيّة، لكن «لا وظائف في الدولة، ونحن أيضاً لم نطلب منه ذلك يوماً، بعدما نسينا الوظائف منذ عهد شمعون. مطلبنا الأوحد هو أن يكون لنا كيان خاص بنا».
لم تشهد أوضاعهم تحسناً كبيراً أيام الرئيس رفيق الحريري، الذي جعل من مرافقه يحيى العرب صلة الوصل بينه وبينهم. رغم ذلك «كنا نحطّ اللائحة زي ما هيّي»، يقول أحد الوجهاء، مشيراً إلى أن «جنبلاط والحريري هما قلبنا وعقلنا، وإن كنا نعرف أن قرار الجبل مرتبط فقط بالبيك». وهذا ما جعلهم يخالفون موقف الحريري بالانكفاء عن الاقتراع في الانتخابات النيابية، فصبّوا أصواتهم لـ«لائحة الشراكة والإرادة»، «ليس مخالفة لقرار الرئيس سعد الحريري، بل لأننا نرفض دخول حلفاء حزب الله إلى الجبل».
الحريري بالنسبة إليهم هو «زعيم الطائفة»، لكن «المرجعية في نهاية المطاف تصب في مكانٍ واحد: المختارة». والعتب على «البيك» موجودٌ ضمن السطور، وإن كانوا يرفضون تظهيره إلى العلن. يقول أحد الشبّان: «لو لم نشكّل قوتنا لما كان جنبلاط يحسب لنا حساباً». فيما يحسم المختار السابق رفعت الأسعد بأن «وليد جنبلاط لا يتركنا في وسط الطريق أبداً، ونحن لا نسمح بأن يُضرب الرجل في ظهره».
ينفي أبناء العشائر أن يكونوا قد استخدموا كـ«كبش محرقة» في الاشتباكات التي دارت بينهم وبين محسوبين على حزب الله. يشير بعض الشبّان إلى «أننا كنا نعدّ للمليون قبل التصعيد، وكنا نُراجع مرجعياتنا السياسية في استفزازاتهم لنا»، علماً بأنّ «السعديات لنا، نحن من دافع عنها في وجه العدو، ونحن من بناها، هذه أرضنا»، وفق ما يؤكد الأسعد.
يعود شبّان عرب السعديات بالذاكرة إلى الاحتكاك الأوّل مع حزب الله عندما قطن في المنطقة «عناصر تابعون للحزب» في مبنيين. بعدها، صارت «أعدادهم تتزايد مع مرور السنوات، إلى أن قرروا إنشاء مصلى لهم، ليشتعل الخلاف لأننا لن نسمح باستفزازنا داخل منطقتنا تماماً كما لن يُسمح لنا باستفزازهم في مناطقهم»، على ما يقول بهجت الأسعد الملقّب بـ«أبو صخر». ويضيف: «الاشتباكات لم تنتهِ إلا باتفاق اللجنة السياسية برعايةٍ أمنيّة، إلا أن النقاط التي تم الاتفاق عليها سرعان ما خرقها الحزب». لذلك لا يتوقّع شبّان عرب السعديات أن تطول الهدنة، وعودة الاشتباكات «في أي لحظة مع العناصر الذين يقطنون أكثر من 8 مجمّعات تابعة لهم». يشير المختار بإصبعه إلى أحد الأبنية المواجهة قائلاً: «قد يطلقون النار علينا الآن، ونحن جالسين نتحدّث».
إذاً، هي النار تحت الرماد التي تستفيد منها كل القوى باستثناء عرب السعديات الذين حملوا أرواحهم على أيديهم، وخرجوا من المعارك فيما بقيت أسماؤهم مُدرجة على لوائح المطلوبين حتّى اليوم. لم يُحرّك زعيم سياسي ساكناً لإنهاء ملفاتهم الأمنية، بل اكتفوا بتوزيع المواقف بأن «السعديات قلعة الصمود»، على حد وصف جنبلاط.
«موظف الدولة» الأعلى رتبة بينهم شرطي في بلدية الدامور


دفع هؤلاء الأثمان وانتهوا «إيد من قدام وإيد من ورا»... هكذا شُطب أحد أبناء عرب السعديات من جدول الناجحين للدخول إلى السلك العسكري. وهكذا غابوا عن كل وظائف الدولة، ليكون لهم شرطي واحد يعمل في بلدية الدامور منذ 20 عاماً بالتعاقد، كموظف هو الأعلى رتبة في الدولة. وهكذا، حُرموا من بناء مدرسة رسميّة لتعليم أبنائهم الذين أكملوا تحصيلهم العلمي بـ«اللحم الحي» وصار معظمهم من حملة الشهادات العليا قبل أن يهاجر أغلبهم. وهكذا تناستهم الدولة على تلّة السعديات وكأنهم ليسوا إلا بضعة منازل «بتوجّع الراس»، فيما أبناء العرب يردّدون «الدولة أولاً». وهكذا أيضاً صمّت مرجعياتهم السياسيّة آذانها عن مطالبهم بأن يكون لهم كيان خاص بهم عبر إنشاء بلديّة السعديات.



قريباً... الانفصال الكامل عن الدامور
منذ عام 1958، تاريخ صدور المرسوم الاشتراعي الذي يقضي بإنشاء بلدية خاصّة بالسعديات، يسعى أبناء عرب السعديات إلى استرجاع حقّهم الذي سُلب منهم بضم بلدة السعديات إلى بلديّة الدامور. يستند هؤلاء الى هذا المرسوم، يُضاف إليه إنشاء مخفر السعديات من قبل العثمانيين وإلى الخريطة الجوية للجيش اللبناني في الستينيات، للتأكيد أن السعديات منفصلة عن الدامور. ويروي المختار رفعت الأسعد الذي نجح في الانتخابات الاختيارية قبل سنوات، لكن وزارة الداخلية رفضت تسليمه الختم الخاص به، عن «معاناة» أبناء السعديات لاضطرارهم للجوء إلى بلدية الدامور ومخاتيرها للحصول على أي وثيقةٍ رسميّة. ويستذكر الكثير من المحطّات المفصليّة التي طرق فيها العرب أبواب الزعماء السياسيين بلا كلل من أجل الاستحصال على حقهم في استحداث بلدية السعديات، من دون جدوى. وليد جنبلاط، مثلاً، رفض الأمر رفضاً قاطعاً لعدم فتح الباب أمام تقسيم أكثر من 40 بلديّة مختلطة في الشوف، فيما كان جواب الرئيس سعد الحريري على مدى سنوات طويلة: «طوّلوا بالكن». مع تسلّم نهاد المشنوق وزارة الداخلية، وبعد أخذ «بركة» المختارة وموافقة مجلس بلدية الدامور، صدر قرار بهذا الشأن استناداً إلى مرسوم عام 1958 وخريطة الجيش الجوية، قبل أن توقعه وزيرة الداخلية لاحقاً ريا الحفار الحسن، ليصبح القرار نافذاً. وعليه، نُقلت نفوس أبناء السعديات إلى بلدتهم بسجلات من الرقم 1 حتى الرقم 10، وخصّصت وزارة الداخلية لهم قلماً للاقتراع في مدرسة الفاروق في المنطقة. في حين لم تنتهِ بعض الوثائق الرسميّة من الدائرة العقاريّة في بعبدا.