«إنَّ السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنَّها تشبه نوعاً خاصاً من التَّحليل العميق. إنَّ الفارق بين النكتجي والكاتب السَّاخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب السَّاخر نظريَّة فكريَّة، فإنَّه يضحي مهرِّجاً» (فارس فارس ــــ مُلحق جريدة «الأنوار»، 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1968).تبقى نصيحة فلاديمير لينين «على المناضل الثوريّ أن يتسلَّح بالصبر والسخرية»، حاضرة دائماً، تنطبق كلياً على الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1972-1936) وكتاباته تحت الاسم المُستعار «فارس فارس»، منذ أواخر عام 1967 حتى تاريخ استشهاده من قبل عملاء المخابرات الإسرائيلية. هذا الجانب من الكتابات الساخرة يأتي ضمن جوانب أدبيَّة وفنيَّة كثيرة في شخصية الشهيد الراحل؛ الصحافيّ، الروائي، القاصّ، الناقد، المسرحيّ، المُترجم، الفنان التشكيلي، مُصمِّم المُلصقات، وأوَّل من درَس العدو ثقافياً (راجع: «في الأدب الصهيونيّ»، 1968) كاسراً بذلك ــ ما أسماه إدوارد سعيد لاحقاً ــ «التقوقع الدفاعي» تجاه الكيان الصهيوني.
خلال مؤتمر صحافي في مقرّ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في عمان يوم 15 أيلول (سبتمبر) 1970 (بول بوبر ـــ وكالة «غيتي»)

بقدر ما اتّسقت كتابات كنفاني الأدبيَّة مع التطورات الاجتماعيَّة من حوله، كتناول ضياع فلسطينيّي الشتات في روايته «رجال في الشمس» (1963)، ومعاناة نظرائهم في الداخل في روايته «عائد إلى حيفا» (1969)؛ كانت كتاباته الساخرة مُتّسقة مع تحوّله من اليسار القوميّ إلى الخيار الماركسي الأكثر تشدُّداً، عندما أسّس الجناح الراديكالي من «حركة القوميين العرب»، في أعقاب النكسة، أي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». الجبهة، التي كان الناطق باسمها، بالعربية والإنكليزية، نال داخلها ــ دون الكثير من رفاقه ــ ثقة رجل بحجم وديع حداد، وأمسى مقرّباً منه ومستشاراً له.
إذاً، لا تستغرب أنّ الرجل الذي رأى المُفكر المصري الراحل محمود أمين العالم «في وجهه وكلماته ومعانيه صفاءً وأمانةً وعمقاً وجدية»، قبل سنتين من النكسة؛ يمتهن السخرية في أعقابها، بكل تفان، بما في ذلك تقريعه للكاتب السوريّ شريف الراس، صاحب «للضاحكين فقط» (1968)، على خلفية تبرير الأخير صدور كتابه في تلك الفترة: إذ كتب كنفاني «الضحك ليس في حاجة إلى تبرير حتَّى بعد 5 حزيران». بدأت كتابات كنفاني السَّاخرة، أساساً، للانفلات قليلاً من وطأة المستلزمات النضِّاليَّة ــ وفق تعبير المفكّر الشيوعي اللبناني الراحل محمد دكروب ــ في «زمان الوطءِ الثَّقيل الموجع المفجع لهزيمة حزيران 1967» (راجع: مُقدِّمة «فارس فارس: مقالات ساخرة»، 1996). تحت قناع «فارس فارس»، تحرَّر كنفاني من كونه المناضل الفلسطيني الحزبي الملتزم والمسؤول، ليلهو قليلاً. لكن من يتابع مقالاته ــ والكلام هنا ما زال لدكروب ــ يراه يلتزم في سخريته بأعلى درجات الأمانة للخطّ السياسي الذي يُمثّله. «كلمة نقد»، الزاوية التي ولدت لئيمة، كما يؤكد صاحبها، ستنجح بسرعة في تأسيس علاقة صحية مع القُرَّاء، بما في ذلك إقدام بعض المؤلفين على إهداء كتبهم إليها. سيأخذها المُفكر السوري صادق جلال العظم، صاحب «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، على محمل الجد، ويدخل مع صاحبها في سلسلة ردود حول كتابه التالي «الحبّ، والحبّ العذريّ». وبدوره، يقرر فارس فارس أن يخرج عن طابع اللؤم مرَّة، على الأقل، عندما يصطدم بذكاء برواية «خمسة أصوات» للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان. «إنَّ الذي يجعلني أشتم هو نوع الإنتاج الأدبي الذي يستحق الشَّتم، فأنا في الواقع مرآة للأشياء، ولست مطبّلاً مزمّراً لها»، يُجادل بشكل جدي، لكنَّه ينتهي بالرواية، التي أعادت لمثقّفي العراق دورهم الرائد، إلى إمكانية استعمالها كرباجاً لجلْدِ كل الأفاقين الذين يزعمون أنهم روائيون. «الأدب السَّاخر ليس تسلية، وليس قتلاً للوقت، ولكنَّه درجة عالية من النَّقد»؛ أراد كنفاني لفنّ السخرية، بشكل عام، الارتقاء من تخوم التهريج إلى مستوى النَّقد السِّياسي والاجتماعي والفلسفي. أيْ أن لا تكون السخرية لغرض السخرية، سطحيَّة، هدَّامة، مجرد استجداء للضحك، بل وسيلة (سخرية بنَّاءة) لا غاية بحدّ ذاتها. يُحيلنا هذا إلى كتاب «الضحك» الصادر عام 1900. وفقًا للفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون، فإن وظيفة الضحك اجتماعية؛ غرضها تصحيح المواقف الميكانيكيَّة وغير المرنة، لدى بعض أفراد المجتمع. بعبارة أخرى، السخرية سلاح المجتمع ضد بعض أفراده ممن لا يسمحون له بالتطور.
بدأت كتاباته السَّاخرة أساساً، للانفلات قليلاً من وطأة المستلزمات النضِّاليّة على حد تعبير المفكر الراحل محمد دكروب


خُذ مثلاً، تناول كنفاني كتاباً أصدره الكاتب السوري صلاح الدين المنجد «يطالب فيه بعودة الولاية العثمانيَّة كمخرج من الأزمة، ويتحسَّر على الأيَّام التي كان فيها العربي يضع يده على مقبض سيفه فيطير رأس عدوّه قبل أن يستلَّ السَّيف المذكور». مثل هذا الكلام، يكفي أن يُنقل كما هو ــ بشكل عرضيّ ــ ولا يستحق عناء السخرية منه. ميكانيكيَّة الفكرة تسخر من نفسها.
الأمر نفسه، يتكرر، في كتاب ــ استعدّ لتقرأ عنوانه وتستوعبه ــ «كلَّ ما سبق وكتب أعلاه يمكن الاستغناء عنه إذا حقَّق إشارة واحدة بسيطة إلى فعالية البداية من الصّفر الواعي»، للكاتب الفلسطيني مصطفى أبو لبدة. لا يفوّت كنفاني الفرصة للنيل من دعاة تحرّر الفن من الوعي، فيقتبس بعض ما جاء في الكتاب، ثم يسأل «هل يوجد سكران أكثر من هذا ليقول هذا الهراء؟»، ويجيب على الفور: «نعم، يوجد، هو نفسه الذي يقول: «إنَّ الخامس من حزيران هو الحكم بالبطلان على ذهنيَّة ونمط تفكير مارسناه»». بيد أنَّه، ينتهي إلى مجاراة الكاتب في نقد «فن اللَّاوعي» باللاوعي: أن يقول كلاماً لا معنى له في نقد كتاب لا معنى له.
أخيراً «لكي نكون أكملنا ثلاثة نماذج مُختلفة من كتابات ما بعد النكسة، تتجلى السخرية الثوريَّة، في تناول كتاب «الأدلة النَّقليَّة والحسِّيَّة على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشَّمس والقمر وسكون القمر» لرئيس جامعة المدينة المنورة (ومفتي عام السعودية لاحقاً) عبد العزيز بن باز. كما هو واضح من العنوان، يُفنّد بن باز «الخطأ الشائع» بخصوص دوران الأرض حول الشمس، ببراهين قاطعة مِن الدلائل النقلية مثل شِعر عنترة بن شداد؛ ومِن الدلائل الحسِّيَّة أن لا يُحسَّ الناس بدوران الأرض كما يُحسُّون بحركة البواخر والطائرات وغيرها من المركوبات الضخمة. في الأثناء، يستدرك كنفاني الأمر قائلاً: «إنَّ الصَّوت الَّذي تسمعه أيُها القارئ، هذه اللَّحظة بالذات، ليس صوت ضميرك المنزعج، ولكن صوت عظام المرحوم غاليلو وهي تكركع وتسلّم على عظام نيوتن!».
ربما كانت كتابات كنفاني، آخر الكتابات «السَّاخرة الجادَّة» (وفق تعبير دكروب). إذ برز لاحقاً، في عقدَيْ السبعينيات والثمانينيات، كُتَّاب ساخرون جدد، من نوع أنيس منصور وجعفر عباس، لا هم لهم سوى التندّر على زوجاتهم، ولوك النِكات المُهينة للمرأة بشكل عام. على سبيل المثال، استهلّ عماد الدين أديب إحدى مقالاته في «الشرق الأوسط» بنكتة على الصعايدة. لكن ماذا تنتظر ممن يكتب في صحافة محكومة بـ «معايير» القرون الوسطى؟ هؤلاء لم يتراجعوا بفن السخرية إلى التنكيت فحسب، بل تراجعوا بالنكتة نفسها إلى السماجة والعنصرية.
في النهاية، مُجرد تخيُّل أشلاء غسان كنفاني وابنة شقيقته لميس حسين نجم (إليها وإلى كل الأطفال أهدى المجموعة القصصيَّة «عالم ليس لنا»)، وهي مُبعثرة على الطريق وعلى غصون الأشجار، يجعل مِن كُل قُرَّائه يقولون من دون سابق تحضير: لن ننسى ولن نغفر أبداً. وكيف يغفر القارئ العربي حرمانه كاتباً مُلتزماً، موسوعيّاً بحقّ، أصدر 18 كتاباً في سنوات حياته القليلة؛ لو عاش عشر سنوات أخرى على الأقل، كم مقالاً ودراسة وقصة ورواية ومسرحية وترجمة ومُلصقاً ولوحة وفيلماً ومناكفة وسخريَّة، كان سيضيفها إلى المكتبة العربية؟ ناهيك برواياته التي لم تكتمل بعد، تماماً كمعركته التي ما زالت مستمرة.



ندوات وأماسٍ ثقافية
تحت شعار «غسّان يحيا... فلسطين تحيا»، تحيي «حركة المسار الفلسطيني الثوري البديل – منطقة مدريد» ومؤسَّسات وجمعيات شبابيّة ونسوية الذكرى الخمسين لاستشهاد الأديب الفلسطيني غسّان كنفاني في أمسية ثقافيّة يشهدها «مركز ماليثيوسا الثقافي» وسط مدريد مساء غدٍ الجمعة. وقالت خالدية أبو بكرة (حركة نساء فلسطين – الكرامة) إنّ المشاركة الواسعة التي تشهدها العديد من العواصم والمدن في أوروبا والعالم في فعاليات الاحتفاء بأدب وسيرة غسّان كنفاني، وبخاصة عند الأجيال الفلسطينية الشابة، تُشكل دليلاً وشاهداً حياً على الرؤية الثورية المتقدمة التي قدمها كنفاني لقضيّة فلسطين وقضيّة الثورة والإنسان في العصر الراهن». وقالت أبو بكرة: «أردنا أن تكون ذكرى كنفاني هذا العام يوماً وطنياً وأممياً من أجل فلسطين وكل القضايا العادلة، فهذا الفنان المناضل لا يزال يعيش فينا لأن القضية التي استشهد من أجلها، والفكرة التي حملها، لا تزال تنبض في قلوب الملايين من البشر، ولأننا لم ننجز بعد هدف شعبنا في التحرير والعودة». ودعت أبو بكرة إلى أوسع مشاركة شعبية في فعاليات الذكرى الـخمسين وتحويلها إلى فعل نضالي وجماهيري وثقافي ضد الاستعمار الصهيوني ومناسبة للإبداع والتجديد. وتُشارك «شبكة صامدون» و«مُنظّمة الجُذور» الشبابيّة في رعاية وتنظيم الأُمسية الثقافيّة، إلى جانب عدد من القوى اليسارية الصديقة وحشد من الأكاديميّين والباحثين.
في السياق نفسه، تعقد «مبادرة فلسطين» ندوة افتراضية من «دارة فلسطين» في إنكلترا بعنوان «الإرث الثقافي السياسي لغسان كنفاني: بعد خمسة عقود على اغتياله». اللقاء الذي سيُقام عند الرابعة من بعد ظهر (بتوقيت بيروت) غد الجمعة تحت رعاية «مركز كيمبريدج لدراسات فلسطين»، يستضيف فيه الباحث مكرم خُوريْ –مَخّوُلْ عشرة مثقفين وباحثين ومناضلين فلسطينيين وعرباً هم: رشاد أبو شاور، بسام أبو شريف، وسام الفقعاوي، أديب جهشان، سمير درويش، محمد عبيد الله، علا نبيل عويضة، سلمى مبارك، محمد هيبي والزميلة تغريد عبد العال.