رغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، لا يزال الكوبيون يذكرون أرنست همنغواي الذي أقام في بلدهم وكتب فيه عدداً من أبرز أعماله؛ أبرزها رائعتاه «لمن تقرع الأجراس؟» و«الشيخ والبحر». لا يزال المسنّون من سكان هافانا إلى اليوم يسمّونه «بابا»، وهو اللقب الذي اشتهر به بين سكان الجزيرة، خلال إقامته الطويلة بينهم، على مدى عقدين.
عند تقاطع شارع «كالي أوبيسبو» وشارع «ميركاديروس» في قلب هافانا القديمة، يقع فندق Ambos Mundos الذي أقام فيه همنغواي أشهراً طويلة عام 1939. هنا، في الغرفة 511، كُتبت «لمن تقرع الأجراس؟»، التي أُغرم بها فيدل كاسترو، أيام كان ثائراً شاباً في معاقل المتمردين ضد نظام باتيستا. ولا تزال هذه الرواية الكتاب المفضّل لـ«الكومندانتي» العجوز. ما يفسّر بلا شك، تحويل هذه الغرفة التي جرى تأليف الراوية فيها إلى متحف صغير يضم بعضاً من أغراض همنغواي وأوراقه، بينما تتصدر الجدران صوراً له برفقة حبيبته الكوبية، ليوبولدينا رودريغيز.
على الرصيف المقابل للفندق، تقف دوماً نصف دزينة من الرجال الملتحين، الذين يرتدون الملابس البحرية ويدخنون السيجار الهافاني الكبير، تشبُّهاً بهمنغواي. يتزاحم السياح، على مدار اليوم، لالتقاط الصور معهم مقابل دولار واحد. أما من يريدون تذكاراً غير عابر، فإنّ أشباه همنغواي هؤلاء يشجّعونهم على التوجّه إلى محل مجاور، حيث يمكنهم، في مقابل التسعيرة الزهيدة ذاتها، الحصول على وشم على الزند أو الصدر لصاحب «وداعاً للسلاح». وإذا دفعك الفضول إلى ولوج ذلك المحل، فستُفاجَأ بأن أوشام همنغواي لا تقل شعبية عن أوشام تشي غيفارا!
إذا انحرفتَ يساراً، وأنت تغادر فندق «أمبوس ماندوس»، يصادفك شارع «كالي أوبيسبو» المتحدِّر، الذي يمتد على نحو كيلومترين باتجاه قاع المدينة. في روايته «جزر في مهب التيارات» (مخطوط غير مكتمل نُشر في الذكرى العاشرة لرحيله عام 1971)، كتب همنغواي: «كم كان يحلو لي نزول هذا الشارع المتحدِّر ألف مرة، في الليل والنهار ...»
غادر بعد عام واحد من قيام
الثورة، إلا أنّ صداقة قوية نشأت بينه وبين «الكومندانتي»

لا عجب في ذلك، فـ«كالي أوبيسبو» هو العصب الحي لأحياء هافانا القديمة. وعند أسفله تقع حانة «فلوريديتا» التي كانت البار المفضّل لهمنغواي في أواخر الثلاثينيات، حين كان يحلو له أن يحتسي كوكتيل الـ«دايكيري» الذي يحمل اليوم اسمه.
عند مقعد همنغواي المفضل، في الركن، إلى أقصى يسار البار، حيث كان يقضي أغلب ساعات الظهيرة في الشرب والتدخين ومراجعة ما كتبه خلال الليل من فصول «لمن تقرع الأجراس؟»، ينتصب اليوم تمثال برونزي بالمقاس الطبيعي يجعل طيف الكاتب الملتحي يخيّم باستمرار على المكان، إذ يتزاحم زوار البار لالتقاط الصور بجانبه، ولا يتردد كثيرون منهم في إهدائه كأس دايكيري!
إذا أوغلت بعض الشيء في الأزقة الجانبية، يقابلك ميناء «نيبتونو»، حيث تحوّلت الورشات المهجورة، التي كانت سابقاً مخصّصة لترميم السفن، إلى مرتع للمهمشين. هناك نشأ بعيداً عن الأنظار، في أواخر الثمانينيات، عالم ليلي مواز كان الفضاء الوحيد للدعارة المثلية، التي كانت أيامها محظورة في كوبا.
لا أثر اليوم لذلك الغيتو. المثلية لم تعد محظورة في كوبا، منذ أن تقاعد فيدل كاسترو عن الحكم. ويعود الفضل في قرار كف المطاردات البوليسية للمثليين الذي كان ضمن خطوات التفتح الأولى لراؤول كاسترو، إلى ابنته مارييلا، المناضلة الحقوقية والاختصاصية الجنسية التي فتحت أواخر التسعينيات أول مركز اجتماعي كوبي للعناية بالمثليين.
غير بعيد عن ميناء «نيبتونو»، انتشرت البارات المثلية في السنوات الأخيرة كالفطر، على امتداد كورنيش «ماليكون»، حيث تتعايش وتتجاور مع المطاعم العائلية والمقاهي الساحلية، ما يبيِّن أن التحوّل ليس سياسياً فحسب، بل اجتماعي أيضاً.
على بعد 10 كيلومترات إلى الشرق من هافانا، يقع ميناء صيد صغير اسمه «كوخيمار»، قبالة «غولف ستريم». هناك تعوّد همنغواي صيد أسماك المارلين على متن زورقه الشهير «بيلار». وفي هذا الميناء تدور أحداث «الشيخ والبحر»: «كان يا ما كان رجل مسنّ يصيد وحيداً، على متن زورقه الصغير، في غولف ستريم. وقد أمضى أربعة وثمانين يوماً دون أن ينال سمكة واحدة...»
على الواجهة الحجرية للميناء، لوحة تشكيلية ضخمة لرجلين ملتحيين: فيدل كاسترو وهمنغواي! ورغم أنّ صاحب «نوبل» (1954) غادر كوبا بعد عام واحد من قيام الثورة، إلا أنّ صداقة قوية نشأت بينه وبين «الكومندانتي». لم يجاهر همنغواي بعد الثورة بتأييده لكاسترو، إلا أنه لم يتردّد في إطلاق تصريحات صحافية نارية وصف فيها الديكتاتور باتيستا بـ«ابن الزانية»، في أوج حملات القمع ضد الثوار، في أيار (مايو) 1958.
ستُفاجَأ بأن أوشام همنغواي
هناك لا تقلّ شعبية عن أوشام
تشي غيفارا

لم تكن صداقة الملتحيين الشهيرين سياسية، بل نشأت في «كوخيمار»، حيث كان كاسترو يمتلك بدوره زورق صيد صغيراً. ولا تزال تلك الصداقة تشغل أحاديث الصيادين في الـ«إل دورادو»، مقهى الميناء ذي الجدران المزيّنة بعشرات الصور لهمنغواي محاطاً بالصيادين. وتقول أساطير هؤلاء الصيادين إنّ «بابا» (همنغواي) كان مبحراً ذات صبيحة غائمة على متن زورقه «بيلار»، حين صادفه زورق متوقف في عرض البحر، فاعتقد أن محرّكه تعطل، واقترب ليطلب من صاحبه إن كان بحاجة للمساعدة. وحين التفت الأخير، فوجئ بأنه ليس سوى فيدل كاسترو، الذي كان يتصيّد وحيداً بلا حرس، وعلقت بصنّارته سمكة مارلين ضخمة، كان يجاهد منذ ساعات لإنهاك قواها، لكي يتمكن من اصطيادها، كما في رواية «الشيخ والبحر»!
لكنّ صيادي اليوم، الذين يردّدون هذه القصة بحماسة فياضة ونوستالجيا جارفة، لم يعايشوا تلك الفترة، باستثناء شخص واحد يعدّ آخر الأحياء ممن هم على صور الـ«إل دورادو» إلى جانب همنغواي. وهو صياد عجوز في العقد التاسع من العمر، اسمه كارلوس رودريغيز.
يروي كارلوس أنه كان في السابعة عشرة، حين تعرّف إلى همنغواي. كما أنه عرف عن قرب غريغوريو فوينتاز، صياد «كوخيمار» الذي استوحى منه همنغواي شخصية «ساندياغو» في «الشيخ والبحر». بعض وسائل الإعلام التي استجوبت كارلوس ـــ بعد رحيل همنغواي ـــ روّجت بأنه هو صبي الرواية. لكنه ينفي ذلك بتواضع، ويقول إنّ الذي أوحى لهمنغواي بشخصية الصبي هو صياد آخر يصغره بسبعة أعوام، اسمه بلاس فيرنانديز. ويضيف إنّ الأخير لا يزال حياً، ويمكن أن نقابله، لكنه ليس مقيماً في «كوخيمار»، بل على بُعد قرابة نصف ساعة على طريق «سان فرانسيسكو دي باولا»، حيث كان همنغاوي يقطن هو الآخر في فيلّته الشهيرة «فينكا فيجيا»، التي تحتضن اليوم «متحف همنغواي».
حين اشترى همنغواي الـ«فينكا فيجيا» عام 1940، كان بلاس فيرنانديز في العاشرة. وسرعان ما أصبح الصديق المفضل لـ«باتريك»، ابن همنغاوي الذي كان في مثل سنه. بالتالي، يقول: «صرتُ أقضي كل أوقات فراغي في حديقة الفيلا أو في المسبح برفقة باتريك. وأحياناً كان «بابا» همنغواي يصطحبنا للصيد أو لعب البيسبول. ولا أزال إلى اليوم أقضي كل وقتي في هذه الفيلّا، للعناية بمقتنيات المتحف. وكلما دخلتُها أحسّ بأنني أستعيد بعضاً من سحر ذلك الفردوس الطفولي المفقود...»
حتى اليوم، لا يزال«صبي الراوية» يخصّص كل ساعات النهار للعناية بمتحف همنغواي. وقبل أيام من زيارتنا، يقول إنه استطاع أن يضمّ إلى مقتنيات المتحف تحفة جديدة تتمثل في سيارة الكريسلر البيضاء، التي كانت ملك همنغواي في الأربعينيات، ثم باعها إلى مزارع من سكان الجوار. وقد استمرت المفاوضات مع ذاك المزارع أكثر من نصف قرن، قبل أن يقتنع أخيراً بإعادة بيع تلك السيارة لمتحف همنغواي!
* صور قديمة ووثائق لأرنست همنغواي على موقعنا