كثيرٌ من المفارقات أظهرتها الحرب المعتملة بين الولايات المتحدة وروسيا في أوكرانيا، أبرزها التحوّل الذي طرأ على العلاقات الأميركية - الخليجية عامةً، وعلاقة الأولى مع السعودية خاصّة، وما يمكن مقايضته في مقابل الحفاظ على مظلّة الحماية التي حكمت العلاقات بين الجانبين، منذ قيام هذه الدول. وإنْ كانت تلك البلدان، وفي مقدّمها المملكة، تدرك، من جهتها، أن ثمّة ما تغيّر في موقع القوّة المهيمنة عالمياً، وما يترتّب على ذلك من مصالح بدأت تنسجها مع القوّتين الروسية والصينية، رافضةً تبنّي الأجندة الأميركية في هذا الجانب، فهي لا تجد بدّاً من استكمال التعويل على واشنطن للحصول على حمايةٍ هي أكثر ما تحتاج إليه، حتّى وإن كلّفها الأمر شروطاً «تعجيزية»، من مثل الدخول في حلف عسكري إقليمي يضمّ إسرائيل، والموافقة على زيادة إنتاج النفط لخفض الأسعار عالمياً، بما يتناسب مع مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. لكن ذلك يبقى رهناً بموافقة الرياض على ما تشترطه واشنطن، وما ستحصل عليه في مقابل تنازلاتها
أظهرت الحرب التي تشنّها الولايات المتحدة وحلف «الناتو» على روسيا في أوكرانيا، تراجعاً مستمرّاً في موقعها الدولي كقوّة مهيمنة قادرة على إلزام بقيّة حلفائها بسياساتها وأجندتها الاستراتيجية العامّة. فقد أثبتت هذه الحرب نزوعاً متزايداً لدى معظم بلدان الجنوب، للتموضع وفقاً لأجندتها الخاصّة، حتى ولو تباينت أو تناقضت مع تلك الأميركية، والامتناع عن الانصياع لإملاءات واشنطن. رفضت البلدان المذكورة فرْض عقوبات على روسيا، على رغم إدانة بعضها لتدخُّلها العسكري في أوكرانيا، ولم توقف تعاونها معها في مجالات مختلفة. أمّا بالنسبة إلى علاقات تلك الدول مع الصين، التي تُعدّ، من المنظور الأميركي، المنافس الأشدّ خطراً على المستوى الاستراتيجي، فهي في طَور التحوّل إلى شراكات حقيقيّة في ميادين التجارة والاقتصاد، وحتّى في الميدان العسكري. ولا شكّ في أن محاولة التصدي لهذا «التغلغل» الروسي والصيني في منطقة مصنّفة - حتى زمن ليس ببعيد - دائرة نفوذ أميركي «حصري»، كانت بلا ريب بين دوافع إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، للعمل على تشكيل تحالف عسكري يضمّ الكيان الصهيوني ودولاً عربية، إضافةً طبعاً إلى الوظيفة الإقليمية لمثل هكذا تحالف، موجّه أساساً ضدّ محور المقاومة.
الأحلاف، السياسية منها والعسكرية، كانت بين أبرز مرتكزات الهيمنة الأميركية على العالم. سمحت الحرب في أوكرانيا، برأي العديد من الخبراء والمراقبين، بـ«إحياء» حلف «الناتو»، بعدما سبق لمسؤولين أوروبيين، كالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مثلاً، الإعلان، خلال عهد ترامب، أن «الأطلسي» دخل في مرحلة الاحتضار. عادت روسيا تهديداً مباشراً برأي هؤلاء، و«الناتو» مظلّة حامية. الموقف جنوباً مختلف تماماً، حتى بالنسبة إلى حلفاء تقليديين لواشنطن، كبلدان الخليج ومصر والهند والبرازيل بولسونارو. اتّضح، بعد مرور أربعة أشهر على الحرب، أن الإمبراطورية المنحدرة لم تستطع إلزامهم بأولويّتها الراهنة، وهي المساهمة في عزْل روسيا وإضعافها. مقارنةٌ سريعة بين خطاب الإملاء الذي اعتمده ترامب مثلاً مع «حلفائه» في دول الخليج، وتذكيرهم المستمرّ بأنّ بقاءهم رهْنٌ بانصياعهم للإرادة الأميركية، وطريقة تعامل بايدن معهم منذ انفجار المواجهة في أوكرانيا، تشي وحدها بمدى تراجع قدرة إدارته على التأثير في قراراتهم. يبقى أن النتائج العملية التي ستتمخّض عن قمّة الرياض، المزمع عقدها في 15 و16 من شهر تموز المقبل، والتي ستجمعه بقادة ومسؤولين من دول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن، وتحديداً ما إذا كانت ستفضي إلى تشكيل تحالف عسكري يضمّ هذه الدول والكيان الصهيوني بذريعة بناء منظومة دفاع جوّي إقليمية، وكذلك إلى موافقة بلدان الخليج على زيادة إنتاجها من النفط، هي المعيار الفعلي للحكم على نجاح بايدن في الحصول على موافقة تلك البلدان على مقايضة جديدة للحماية، في مقابل التسليم بأجندته الإقليمية والدولية، أو فشله في ذلك.
ما تطلبه الولايات المتحدة من بلدان الخليج حيال روسيا، هو ببساطة المساهمة النشطة في إضعافها


الاجتماع الذي عُقد في آذار الماضي في مدينة شرم الشيخ بين ضباط كبار أميركيين وإسرائيليين وعرب، وكشف عنه تقرير لصحفة «وول ستريت جورنال» أعدّه مايكل غوردون، وهو صحافي أميركي وثيق الصلة بالجيش، وواسع الاطّلاع، يشكّل بذاته نقلةً نوعية في إطار التعاون الأمني والعسكري بين هذه الأطراف. ضمّ ذلك الاجتماع إلى الجنرال فرانك ماكنزي، رئيس القيادة المركزية الأميركية، رئيس الأركان الصهيوني أفيف كوخافي، ونظيرَيه، السعودي فياض بن حامد الرويلي، والقطري سالم بن حمد، وقادة عسكريين من الأردن ومصر، وآخرين أقلّ رتبة من الإمارات والبحرين، «لاستكشاف كيف يمكنهم التنسيق ضدّ قدرات إيران الصاروخية والطائرات من دون طيّار»، وفقاً لما نقلته الصحيفة عن مسؤولين أميركيين. تسريب هذه المعلومات في هذا التوقيت، وعبر غوردون بالذات، نمّ عن تقدُّم في مشروع «الدفاع الجوّي الإقليمي»، لا يمكن فصله عن زيارة بايدن إلى الرياض. هو آتّ ليؤكد بقاء مظلّة الحماية الأميركية لدول الخليج، على رغم انشغال الولايات المتحدة في مجابهات كبرى مع روسيا والصين. هي سترعى تشكيل «ناتو إقليمي» في مقابل إيران من جهة، وتمضي في التفاوض معها، جنباً إلى جنب مع الأوروبيين، وفي قطر، للتوصّل إلى تفاهم يفضي إلى عودة التزامها بالاتفاق النووي، ما يبعد شبح تحوّلها إلى قوة نووية عسكرية في المستقبل المنظور. بطبيعة الحال، فإن المطلوب أميركيّاً من دول الخليج، في مقابل تلك «الحماية»، إضافة إلى تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، وقْف العمل باتفاق «أوبك+» مع روسيا، وزيادة إنتاجها من النفط، لتخفيض أسعاره عالميّاً، بما ينسجم مع مصالح واشنطن وحلفائها، ويحدّ من موارد موسكو المالية.
مراجعة المسار العام لعلاقات أنظمة الخليج مع الكيان الصهيوني، منذ وصول قياداتها الحالية إلى السلطة، والمعطيات المتواترة عن التنسيق والتعاون المتعاظم معه، سرّاً ومن ثمّ علناً، تقود إلى ترجيح استمرار ونموّ مثل هذا التعاون. لكن الانتقال إلى تشكيل حلف عسكري علني مع إسرائيل، والذي أيّده الملك الأردني، عبدالله الثاني، مثلاً، هو خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى دولة مجاورة لإيران كالإمارات، وصعبة بالنسبة إلى النظام السعودي، لما قد يترتّب عليها من تداعيات في داخل المملكة وفي جوارها. هذه النُظم تريد المزيد من التعاون مع إسرائيل، لكن الإعلان عن حلف معها موجّه ضدّ إيران يعني رفعاً لحدّة الصراع مع الأخيرة، بينما تفاوضها الولايات المتحدة للتوصّل إلى اتفاق معها.
ما تطلبه الولايات المتحدة من بلدان الخليج حيال روسيا، هو ببساطة المساهمة النشطة في إضعافها عبر تأمين مصادر بديلة لصادراتها من الطاقة والعمل على تخفيض سعرها العالمي عبر زيادة الإنتاج. تعزّزت الصلة بين هذه البلدان وبين موسكو مع بداية أزمة الثقة بين الأولى وبين واشنطن بعد سقوط نظامَي زين العابدين بن علي وحسني مبارك في عام 2011. وقد تقاطعت مصالح موسكو ودول الخليج في 2019 و2020 ضدّ صناعة النفط الصخري الأميركية، فعمد الطرفان إلى زيادة كبيرة للإنتاج لتخفيض الأسعار والإضرار بها، وكنّا في عهد ترامب!
لا شكّ في أن قصف منشآت «آرامكو» وغياب الردّ الأميركي، قد عمّقا من أزمة الثقة المذكورة، وحفّزا الأنظمة الخليجية على تنويع الشراكات، وتطوير علاقاتها مع روسيا والصين. هي مدركة، كغيرها، تراجع القوّة الأميركية، وهذا ما يفسّر جرأتها على عدم الانقياد خلفها في معركتها مع روسيا حتى الآن، وما يجعل موافقتها على المقايضة التي يَعرضها بايدن غير مؤكدة.